الدين بحسب الأصل هو العلاقة بين الإنسان و من يعبده ، وهو فكرة قديمة قدم البشرية ذاتها و سابقة حتى على ظهور الديانات السماوية ، حيث أنه يتعلق بحاجة نفسية فطرية داخل النفس البشرية تحتاج دائماً لوجود صلة روحية بينها و بين قوة عليا ترى أنها الأحق بالعبادة التقديس و التوجه بالصلوات و ربما القرابين طمعاً في رضائها و التماساً لبركتها ليس فقط لتصيب فلاحاً و تيسيراً في أمورها الحياتية و الدنيوية و لتدرك نماءاً و زيادة في الرزق و لكن قبل ذلك إشباعاً لحاجة فطرية قد جبلت عليها و هي حاجتها للشعور بالاطمئنان الذي يكفل بعثه إليها إدراكها بأنها موصولة بقوة عليا تأتنس بها و تشعر بوقوعها تحت سيطرتها المبسوطة بالإذعان و الخضوع لمشيئتها العليا ، و يرجع هذا لأمور عدة منها إدراك الإنسان منذ قديم الأزل بوجود قوة عليا خالقة للطبيعة و مسيطرة عليها و متحكمة في أطوارها و أحوالها مقارنةً بضعف و محدودية قدراته هو سواء في عدم قدرته على التحكم بها أو لعجزه دائماً عن مواجهة أخطارها بوسائله المحدودة ، كما أن الإنسان قد أدرك مبكراً انعدام قدرته على إدراك الغيب أو ما ستجود به الأقدار عليه و ما سيحمل له الغد من رزق أو شح ، خير أو شر و أن هذا منوط بتلك القوة العليا التي يحتاج لرضائها دائماً . لذلك كان وجود (الإله) حقيقة دائمة و ملازمة لمراحل التطور الإنساني عبر العصور و الحضارات المختلفة و في كل مكان على سطح الأرض ، باختلاف صورة و طبيعة هذا (الإله) ، و الفكرة تطورت طبعاً من تعدد الآلهة إلى عبادة الإله الواحد فنجد أن اخناتون قد عبد الإله آمون متمثلاً في قرص الشمس ، حتى نصل للقصة القرآنية المعروفة لمراحل التطور العقائدي لدى سيدنا إبراهيم عليه السلام و التي خلص فيها لعبادة الله الإله الواحد الأحد الخالق بعد مروره بما اعتقد بإلوهيته من آلهة أخرى كالشمس و القمر ، و هو استعراض بالغ الرقى و الدلالة في النص القرآني الذي أراد من خلاله الله سبحانه و تعالى أن يوصل لنا العقيدة الصحيحة للإيمان به بالدليل العلمي و بالاستبعاد المنطقي لما سواه بما يتفق مع فطرتنا الإنسانية و تفكيرنا العقلي ، و هكذا فإن الدين احتل مكانة قدسية في النفس البشرية منذ أقدم العصور باستثناء اللادينيين بطبيعة الحال ! ، هذا عن الدين كأصل أما مسألة التدين فهي قصة أخرى مختلفة نماماً لأنها تتعلق بطبيعة و مظاهر العبادة و انسحابها على المسائل الحياتية و الدنيوية المختلفة و هو ما يصل بنا في نهاية المطاف لحيث نقف الآن من موقف الإخوان و السلفيين كلاعبين على الساحة ، فالحقيقة أن المشهد الراهن في مصر ينطوي على قصور شديد في الرؤية من جانينا تجاه ما يمثله الإخوان و السلفيين حيث انحصرت رؤيتنا لهم كفصيل منافس أو مناوئ على الساحة السياسية و من ثم نفكر في أساليب مواجهات سياسية بدورها تتعلق بإجراءات مثل التبكير بتعديل الدستور و منح القوى و الفاعليات الأخرى من أحزاب و منظمات المجتمع المدني الوقت الكافي لتنظيم صفوفها و حشد قواها السياسية مع اقتراب الموعد المزمع للإنتخابات البرلمانية في سبتمبر المقبل مع استيعابنا لحقيقة أن التيار الإسلامي هو الفصيل الوحيد منظم الصفوف الآن على الساحة فضلاً عن خبرته و تجربته العريضة السابقة في خوض غمار الحياة السياسية . و حقيقة الأمر و مبعث القصور هنا في أن الإخوان و السلفيين ليسوا منافساً سياسياً فحسب – حتى مع الأخذ في الإعتبار رغبتهم في الإنفراد بالكعكة و ليس تقاسمها -، و لكنهم فصيل فاعل و متجذر في المجتمع و له قاعدة شعبية لا يستهان بها و بالتالي فالمشكلة أكبر و أعمق من أن تكون مجرد مواجهة سياسية معه و لكنها قضية حياة مجتمع و مستقبل أمة تسابق الزمن للنهوض و تعويض ما فاتها بالمقام الأول ، لقد تركنا الساحة طويلاً للتيار الإخوانى و السلفى في ظل غياب كامل فادح و فاضح لأي دور تقوم به المؤسسة الدينية الرسمية ألا و هي الأزهر الشريف في الوقت الذي تضافرت فيه عوامل عدة أحسن هذا التيار استغلالها ، فارتفاع نسبة الأمية و شيوع الخرافة و المفهوم الملتبس لحقيقة التسليم بالقضاء و القدر و طبيعة التقاليد الشرقية المحافظة المستعدة للقبول الطوعي بالتضييق و التحريم خلافاً للأصل الفقهي المعروف بأن الإباحة هي الأصل دائماً و ذلك تقيةً و درءاً لشبهة الوقوع في ذنب أو معصية ، كل هذا مع ما تضافر و تزامن معه منذ حقبة السبعينات من فتح أبواب السفر للسعودية و دول الخليج سعياً وراء الرزق واستئثار الحرفيين و أصحاب الحظ الأدنى من التعليم بهذه الفرص أكثر من غيرهم أدى كنتيجة طبيعية لعودتهم بعد عدة سنوات محملين بالأجهزة الكهربائية و الريالات و قد طالت لحاهم و تغيرت لهجتهم و بدأوا في استخدام مفردات غريبة و دخيلة على لهجتنا المصرية و عادات سلوكية و دينية جديدة فيما عرًفناه لاحقاً بالمد الوهابي ، و لم تتوقف الظاهرة عند حد هؤلاء و لكن اتسع الأمر ليطال الزوجة و الأبناء ثم الأشقاء و الشقيقات فالعائلة .. و هكذا ، و لم يقف الأمر عند هذا الحد بل اتفق أن عدداً غير قليل من هؤلاء قد استثمروا حصيلة غربتهم في شراء “ميكروباصات” يعملون عليها و بدأوا يحولونها لمحطات إذاعية خاصة ينشرون من خلالها ما قد جلبوه معهم من أشرطة الكاسيت لدعاة وهابيين يعتمدون منهج المنقول لا المعقول حيث ينحصر دور العقل عندهم في التلقي دون إعمال أو تفكير لأن العقل بحسب زعمهم قد يضل و يخطئ !! ، و بالتالي فكل ما هو منقول يدخل في إطار المسلمات التي لا تقبل الجدل أو التأويل ، و يهتمون بالمظهر دون الجوهر و بالشكل الشعائري للعبادات دون الإلتفات للمعاملات و اتساع مفهوم و حدود التأويل ! ثم ظهرت الفضائيات الدينية و اتساع نطاق تأثيرها بشكل غير مسبوق ، و هكذا بدأ هذه الفكر يعرف طريقه جيداً لآذان و أدمغة العامة و البسطاء و تتسع قاعدته شيئاً فشيئاً و نجد مظاهره تحيط بنا متمثلة في إطلاق اللحى و ارتداء النقاب و استحداث مفردات خطاب جديدة مثل الرد على التليفون ب”السلام عليكم” بدلاً من آلو ، و تحريم مصافحة النساء ... الخ ، و برغم تنامي الظاهرة و استفحال آثارها يوماً بعد يوم فقد تعاملنا معها باستكانة و استهانة غير مسئولة ولا واعية ! ، حتى أفقنا على المشهد الراهن الذي نحن يصدده الآن و الغريب أننا حتى هذه اللحظة لا زلنا نتعامل مع المشهد بقراءة خاطئة كمسألة سياسية و هو تناول مخل و قاصر ! فالمسألة أيديولوجية تتصل و ترتبط بشكل وثيق ببناء المجتمع و نهوض الأمة و طبيعة شرائح عريضة من المجتمع يتشكل وعيها و إدراكها ووجدانها الديني و الفكري و الثقافي جيلاً بعد آخر و هو ما يحدد ملامح و شكل المستقبل الذي نتجه إليه ! ، و هنا يجب أن نتوقف للتفكير فيما يجب عمله إزاء ذلك حيث توجد محاور عدة ينبغي العمل عليها بشكل سريع و متوازي الآن و ليس غدا : * تجديد كامل و شامل للخطاب الديني بما في ذلك أئمة و وعاظ المساجد ليأتي هذا الخطاب معاصراً حياتياً بسيطاً واضحاً يخاطب الناس بما يتصل و يربط دينهم بدنياهم و بما يخلق لديهم المنهج الوسطى المعتدل المستنير المتسامح المنفتح على قبول التعايش السلمي مع الآخر و النهى عن تكفيره و استبعاده و التقليل من شأنه و يحفظ للمرأة قدرها و كرامتها و حقها في ممارسة كافة حقوقها الحياتية كإنسانة لا مجرد وسيلة لإشباع رغبات الرجل الحسية ، ليكون لدينا جيل جديد مختلف من هؤلاء الأئمة من خلال تطوير المناهج الدراسية التي يتلقونها خلال دراستهم و من خلال الدورات التدريبية التي يتلقونها بعد ذلك بشكل دوري للحفاظ على مستوى و طبيعة معلوماتهم حتى نجد اليوم الذي يعتلى فيه خطيباً عصرياً المنبر ليحدثنا عن معلومة طالعها بالأمس على شبكة الإنترنت في كتاب ما أو صحيفة عربية أو أجنبية و يستشهد بأبيات من الشعر الحديث و.. هكذا... * لابد من البدء فوراً في إنشاء قناة فضائية للأزهر الشريف لتكون منبراً دعوياً لصحيح الدين و العقيدة تخاطب الناس في أمور دينهم و دنياهم و مشاكلهم الحياتية المختلفة و تصل ما بين الدين و العلم و الأدب و الفن و الثقافة لهجة خطاب تنويري عصري معتدل ، مع التركيز على مفهوم دولة المواطنة المدنية و حق الآخر في الحياة ، و ذلك لإنقاذ البسطاء من الوقوع في براثن الفضائيات الممولة من المد الوهابي و السلفى و التي أصبحت المصدر الوحيد الذي يستقى منه عامة و بسطاء الناس معلوماتهم الدنيوية و أصبح أمثال الشيخ محمد حسان و محمد حسين يعقوب هم مرجعياتهم الدينية . * تطوير مناهج التربية الدينية في المدارس سواء المسيحية و الإسلامية لتحقيق ذات الأهداف السابق الإشارة إليها لضمان أن تأتى الأجيال الجديدة بمفاهيم صحيحة معاصرة دينية و حياتية و ذلك من خلال لجان يتم تشكيلها على أعلى مستوى تضم بين صفوفها متخصصين في تخصصات مختلفة علمية و أدبية و فنية و علم الاجتماع ... الخ لتكون هذه المناهج الدينية النواة الأولى لخلق المفاهيم الصحيحة. * مواجهة ظاهرة الإخوان و السلفيين بنفس وسائلهم المعتمدة على أشرطة الكاسيت و الكتيبات الصغيرة و الملصقات التي تنتشر و تباع في كل مكان و ذلك بخطاب ديني معتدل معاصر لتحقيق التوازن الموضوعي المطلوب. إن الأمر جد خطير و لا يحتمل الهزل أو التباطؤ أو القراءة الخاطئة في مرحلة هامة و مفصلية من تاريخ أمة تعثرت مسيرتها طويلاً و آن لها أن تنهض من غفوتها الطويلة بل من سباتها العميق لتدرك ما فاتها و تلحق بقطار التنمية و التقدم ، فهل نحن جادون ؟!