أخبروها بموته , كما أخبروها أن رقم هاتفها كان آخر رقم اتصل به . ولم تكن متأكدة هل حدثته قبل أن يموت فعلا , أم أنها علمت بموته ولم تصدق فاتصلت به. وكانت القصيدة في يدها , ولم تعرف أيضا هل قرأتها له في الهاتف أم أنها قرأتها له بعد موته. لكنها تعرف أنها كانت هناك , وأنه اشترى لها العشاء , وأنها ملأت له الأواني بالماء تحسبا لانقطاعه المعتاد في نهارات الجمعة , وغسلت الفرشاة بالجاز لتنظفها من آثار ألوان الزيت القديمة الملتصقة بها , وأنها ظلت تلومه حتى بدأ في إكمال اللوحة المركونة بجوار الحائط , وأنها بعدها تركته ونامت , وأنه تركها .. ومات . لماذا لا يأتون ويرحلون مثل سائر بني آدم ؟! كلاهما ذهب مخلفا وراءه كارثة . رحلت أمها أولا وتركت لهما وصية كارثية تحايلا حتى نفذاها بشكل جزئي وكان ذلك غاية في الإرهاق والألم , واليوم رحل والدها تاركا وصية كارثية فوق رأسها هو الآخر , وهي لا تدري متى سترحل , ولم تجد رأسا تصلح لأن تتلقى كارثتها بعد رحيلها . كانت في السادسة عشرة من عمرها حين ناداها موضحا لها باختصار وصية والدتها بأن تدفن بجوار البحر , وقال إنه لا يستطيع تحمل المزيد من الشعور بالعجز إن لم ينفذ لها تلك الوصية فيكفيه ما عاناه معها طوال حياتها وهي تتهمه بوأد حلمها القديم في بيت على البحر .. كان متشنجا ويضرب بكفيه على الطاولة بعنف أخافها وأدهشها , فهي لم تره عصبيا قط , وظل يتساءل أيذهب ويحفر حفرة ويضع الجثة وينتهي الأمر ..ثم يكون مصيره إلى السجن أو إلى مشفى الأمراض العقلية . اقترحت هي بهدوء أن يتم ما كان ينويه من دفنها في مدفن العائلة بقريتهم , ثم يصنعا سويا دمية خشبية تشبهها ,يلبسانها الفستان الأزرق المزخرف بالأبيض والذي كانت تحبه وتسميه ” السما والسحاب “ , ويدفنان الدمية بجوار البحر كما أرادت , وذلك أضعف الإيمان . استحسن والدها الفكرة , وبدا أنها أزاحت عن كاهله تأنيب الضمير . حين ذهبا لآداء مراسمهما الخاصة أصر على وضع القلادة الذهبية التي تحمل صورته حول عنق الدمية لتدفن معها , أرادت أن تخبره أن أمها لم تحب أبدا هذه القلادة , وأنها كانت تلبسها مضطرة لتشهر للناس أنها سعيدة ومنتصرة لحلمها , لكنها أمسكت لسانها وتركته يفعل ما يشاء , فالموقف لم يكن ليحتمل المزيد من الأم , ثم إنها في النهاية مجرد دمية لا أكثر ولا أقل . قبل وفاته بشهرين جاءت لتزوره , وجدت لوحة نصف مكتملة تجمع وجهه ووجه امها , بالغت في غضبها واتهامها له بأنه لا يكمل أبدا ما بدأه . أوصاها أن تدفن هذه اللوحة بجوار دمية أمها , وقال ساخرا أن وصيته ستكون أقل وطأة حين تنفيذها , وأنها يجب أن تشكره على كرمه معها حتى النهاية . نظرت بقوة إلى عينيه , ولم يفاجئها كثيرا كلامه . أرادت أن يتم دفن اللوحة في مشهد مهيب ورومانسي , كأن يكون الجو ضبابيا أو تكون لحظة الغروب , لكن الجو كان عاديا بدرجة مخزية . كانت الشمس هناك , وبعض الصبية يلهون بالكرة على البعد , ولم يكن باستطاعتها الانتظار حتى الغروب لأن السفر ليلا سيكون صعبا لازدحام الطريق . بدأت بالحفر بجوار قبر الدمية , ثم وضعت اللوحة التي اصطدمت باليد الخشبية للدمية , بدت وكأنها تلوح لها بالسلام , أو ترجوها أن تأخذها من هنا .. أو تشدها لتذهب إليها . كان هناك عشرات التفسيرات لليد التي برزت فجأة , لكن أيا كان التفسير ,فلم يكن بنيتها القيام حياله بأي رد فعل . أنهت الردم واستدارت عائدة . قاصة مصرية