تتوحد وتنشق الأحزاب والتنظيمات العقائدية في الأغلب على اختلافات واتفاقات فكرية، إما أن تضمد بوحدتها جراح اختلاف أو أن تحدث صدعاً في جدار وحدتها لاختلاف في تأويل أو تحليل، ما عدا ذلك يعد خروجا على الأسباب الموضوعية وسقوطا في فخ الأهواء والأمزجة و المبررات الذاتية. وبالتالي علينا أن نسأل أصحاب مشروع الوحدة الناصرية أو أى وحدة على الإطلاق لماذا كان الانقسام في البداية؟ أو بوضوح أكبر ما هى الأسباب الموضوعية التي أدت لانقسام التيار الناصري الذي كان موحداً بالفعل قبل أن يحاول أن ( يحشر) جسده الهيولي الضخم في (تنظيم) ضيق لا يتسع لعضوية هائلة في العدد ولا لأفكار ومبادئ لا يحيطها سقف تنظيم ولا تقيدها ضرورات انضباط. التيار الناصري في الشارع كان موحداً، وما أن أسس حزبه انفرط عقده، وتحول إلى ساحة صراعات بين الجماعات والتنظيمات الصغيرة التي حاولت أن تدفع برموزها إلى القيادة، واستخدمت كل الأساليب والأدوات لتحقيق ذلك، حتى تلك الأساليب اللاأخلاقية والتي تتناقض مع المبادئ القومية الناصرية تناقضاً كبيراً. جماعات وتنظيمات ما قبل الحزب رغم أنها تنتمي إلى الفكر الناصري إلا أنها جاءت من مشارب مختلفة وتكونت سياسيا وتنظيميا في مناخات فكرية غير متشابهة، بعضها كان يمثل روافد منظمة الشباب الناصري وكان اعتمادها الفكري بالأساس على خطب ومواقف جمال عبد الناصر وكانت تدين بالولاء لقياداتها التنظيمية في تنظيم (الطليعة الاشتراكية). بينما أمدت أندية (الفكر الناصري) في الجامعات المصرية إلى الحركة شباباً لا ينتمى إلا للمبادئ ولا يمتلك منهجاً فكرياً مستقلاً يعتمد عليه، في نفس الوقت الذي غاب فيه الفريق الأول عن النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي عن المشهد الناصري، مما أدى إلى نشوء مدرستين، أولاهما في جامعة القاهرة وآلت على نفسها مهمة التأسيس الفكري للنظرية الناصرية واعتمدت في مراجعها الأساسية على المقولات والخطب والمواقف و ( فلسفة الثورة) و (الميثاق الوطني) و(برنامج 30 مارس)، بينما المدرسة الأخرى نشأت في جامعة (عين شمس) في ( النادي السياسي) الذي ظل يقيم مؤتمراً لمناقشة الفكر الناصري خلال الأعوام السبعة التالية لرحيل عبد الناصر، وهذه المدرسة اعتمدت بالأساس فكرياً على (نظرية الثورة العربية) للمفكر القومي عصمت سيف الدولة. المثير للدهشة أنه لم يكن هناك أى خلاف حقيقي موضوعي يدفع للانقسام التنظيمي بينهما، ومع ذلك أسس كلاً منهما تنظيمه (السري)، وفي أحد اللحظات التاريخية التي تلت اغتيال السادات فرضت الوحدة نفسها على جدول أعمال التنظيمين، إلا أنها اصطدمت بمعوقات غير موضوعية، ليس أقلها تخوف البعض ألا يكون في مواقع القيادة. عندما أعلن الحزب الناصري في بداية التسعينيات من القرن الماضي تواجهت الفرق المتصارعة وجهاً لوجه وفشلوا في تقسيم الإرث التنظيمي الناتج عن سنوات النضال الحقيقي في الشارع وأصبح كل فريق يحاول الحصول على نصيب أكبر في مواجهة مع اللاعب الأكبر وقتها المتمثل في الحرس الناصري القديم الذين بعد خروجهم من سجون السادات بدأوا حرباً شعواء ضد الشباب الناصري وحاولوا حصارهم و عزلهم وعندما فشلوا قاموا بمحاولة استخدام بعضهم، وكان هناك من ينتظر الفرصة وقبل بالصفقة الالتحاق بأى صورة من الصور بما تبقى من تنظيم (الطليعة الاشتراكية) على حساب تاريخه النضالي مع أقرانه الشباب في مرحلة السبعينيات. وبدلاً من ممارسة الجدل الاجتماعي فيما بينهم مارسوا صراعهم بنفس أدوات وأساليب تنظيماتهم السرية وادى ذلك إلى تدافع الأحداث إلى نقطة الانشقاق التنظيمي وتأسيس حزبين آخرين هما (الكرامة) و (الوفاق القومي)، وبعد ثورة يناير دخل فريق ثالث في محاولة تأسيس حزب (المؤتمر الشعبي الناصري) ليزداد الانقسام حدة على الرغم من أن الدافع من تأسيسه كان الدفاع عن وحدة العمل والتنظيم الناصري. لم يشهد تاريخ الانقسامات والانشقاقات الناصرية حالةً واحدةً كانت دوافعها أيديولوجية، الكل يتمسك بالثوابت ولا يحيد عنها؛منطلقات وأهدافاً بل وأدوات وأساليب أيضاً، دعك من التجسيد العملي لذلك كله، يكفي الاتفاق على المبادئ والأفكار والتوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما لا يجعل هناك أية أسباب موضوعية لأى انشقاق سوى أن بعضهم يبحث لنفسه عن دور أكبر يمكنه من الادعاء أنه الممثل الوحيد للحركة الناصرية في الساحة المصرية لأسباب لا تخفي عن ذكاء القارئ. السؤال الملح هو لماذا الوحدة الآن؟ لا توجد إجابة واحدة للرد على السؤال بل هناك فضاءً واسعاً لسيل من الاحتمالات، لعل أولها وأقربها للحقيقة هو أن جميع الأحزاب الناصرية بلا استثناء تعاني من مشاكل داخلية تهددها بالانهيار، فحالة الجمود الفكري والعجز السياسي الذي تعانيه تلك الأحزاب طيلة أكثر من ربع قرن وسعت الفجوة بين القيادة التنظيمية وقواعدها، وبين القواعد والجماهير، وجاءت ثورة يناير لتفضح وبشكل مهين ذلك العجز البين، و ألقيت التهم على بعض القيادات هنا وهناك، وجرى التضحية ببعضهم في محاولة لإنقاذ السفن الموشكة على الغرق، غير أن ذلك لم يكف، فاقترح البعض القفز إلى الأمام عابراً هوة المأزق بطرح مشروع الوحدة الناصرية، وسرعان ما تلقفه المأزومون واستدعوا أحد أبناء عبد الناصر ليكون راعياً للمشروع لما اشتهر به من شرف وعفة ونبالة وانتماء، ومع ذلك كله ظل الجميع في مواقعهم دون أن يطرح أحدهم مشروعاً متكاملاً للوحدة ، اكتفى المأزومون بطرح الشعار وأفرغوه من مضمونه ولم تطالبهم قواعدهم الحزبية ببرنامج عمل متكامل لإنجاز هذه الوحدة، ربما لتأكدهم من عدم جدوى المشروع بالأساس. أخيراً كل تجربة تكمن عوامل انهيارها فيها بجوار عوامل البقاء والتطور، وذلك كله رهن بما يفعل وبما يريد أصحاب التجربة، بل وأيضا بما يمتنعون عن فعله و ما يتنازلون عنه لنجاح التجربة، غير أن عوامل انهيار تجربة الوحدة الناصرية يكمن في أحجار أساسها وهو ما يهدد بل للأسف يؤكد عدم قدرة هذه التجربة على الصمود مما يجعلها في المستقبل أحد معوقات أى تجربة وحدوية جديدة. فشل التجربة الحزبية العربية وعلى رأسها الأحزاب العقائدية (القومية واليسارية) يحتاج إلى تأمل ودراسة، لا إلى تأجيج صراع فكري يأكل الأخضر واليابس ويزيد الانقسام إنقساماً.