رغم صغر سنها وبراءة وجهها بشكل لا تتوقع أنها تحتمل كل هذه الصدمات التى مرت بها فى حياتها التى روتها ل "البديل" أثناء حوارنا معها، هى سماح سيد والدة الشهيد كريم أحمد عبد الله أحد ضحايا ألتراس أهلاوى فى مجزرة استاد بورسعبد، وعلى الرغم أيضًا من هذا الوجه الصغير، إلا أن كلامها يلهمك القوة والثقة وتجبرك على الانحناء لهذه السيدة؛ لتحترم فيها شجاعتها وتماسكها ولباقة عبارتها وترتيب أفكارها، فهى قطعت عهدًا على نفسها أنها لن تتنازل عن حق ابنها، ومهما مرت الأيام فلن يضيع حقه. * ما الذى كان يمثله لك الشهيد كريم أحمد عبد الله؟ هو كان عمرى كله وسندى ورجلى فى هذه الدنيا بعد أن ترملت لمرتين، فكريم عندما استشهد فى مذبحة بورسعيد كان عمره 18 عامًا ونصفًا، وكان فى السنة الرابعة بمدرسة السياحة والفنادق، وكان شابًّا رياضيًّا حصل على بطولة أول جمهورية تحت سن 16 عامًا كمال أجسام، ولكنه تربى طفلاً يتيمًا وهو عنده عامان، واستطعت أن أتماسك وأتغلب على أحزانى من أجل تربيته، وبالفعل مرت أيام بها شقاء كبير، ولكن كان من أجله ومن أجل أن أوفر له كل ما يطلبه. * كيف كانت علاقتك به؟ ابنى بالرغم من صغير سنه إلا أنه كان راجل، تحمل المسئولية وكان يعمل أثناء الدراسة النظرية بالعمل فى المطاعم والفنادق من أجل أن يصقل خبراته ومهاراته فى العمل، حتى بعد ما تزوجت بعد 13 عامًا من وفاة والده، إلا أننى ترملت، وكان ابنى "نور" مجرد شهر فى أحشائى، كريم وقف بجانبى وساعدنى على تحمل هذه الصدمة، وكان أخًا وصديقًا وأبًا لأخيه الصغير "نور" الذى لا يتجاوز عمره الآن 3 سنوات. * وماذا عن خطوبته رغم سنه؟ كريم كان شابًّا لا يريد أن يغضب الله، يتميز بحسن الخلق والتدين، كان لا يعرف أن يفعل مثل الآخرين من شباب جيله من صداقة الفتيات وغيرها من هذه العلاقات، وعندما تناقشت معه فى موضوع الخطوبة وأنه ما زال صغيرًا بعد، وطلبت منه أن يكمل دراسته أولاً،قال لى إن الخطوبة ستكون حافزًا له، وإنه يريد أن يكون هناك شكل رسمى وإطار اجتماعى تدخل تحته محبته للفتاة، خاصة أنه قال لى "ماما إحنا ما فرحناش فى حياتنا.. خلينا نفرح بقى"، وبالفعل وافقت على الخطوبة وأقمنا فرحًا كبيرًا وشعرت وقتها بمدى فرحته وبهجته بالخطوبة، واشترطت عليه أن يذاكر جيدًا وأن يعمل فى نفس الوقت؛ حتى يتحمل مسئوليته. * متى انضم لألتراس أهلاوى، ولماذا لم تخافي من هذا الانضمام الذى قد يؤثر على دراسته؟ فى الحقيقة لمست عشق كريم للنادى الأهلى ومتابعته الدائمة لمبارياته، فحياته كلها لا يوجد بها سوى أنا وخطيبته ودراسته والنادى الأهلى قبلنا جميعًا، وكان مؤمنًا بكيان الألتراس وتشجيعهم للنادى سواء فى الخسارة أو المكسب، وانضم بالفعل للألتراس منذ 3 سنوات قبل وفاته، ولم تكن هناك أى عطلة لدراسته؛ لأننى لم أكن أريد حرمانه من شىء، خاصة أنهم ساعتان يحضر فيهما المباراة ويعود، أو اجتماع مع الألتراس، فلم أكن أتوقع أن الأمر سوف يصبح بهذه البشاعة، ويتم قتل الألتراس غدرًا فى بورسعيد. * ألم تستشعرى القلق من مباراة الأهلى وكيما أسوان بالقاهرة؟ لم أكن أتصور أنه يرجع للبيت جثة هامدة، لقد عاد لى من مباراة كيما أسوان مصابًا فى قدمه وليس جثة، من الطبيعى أن يحدث تعصب ينتج عنه خطف بانر أو علم أو تى شيرت، لكن التعصب من المستحيل أن يصل بنا إلى القتل، فالرياضة نعرف دائمًا أنها تساعد على التخلص من هذه النوازع العنيفة ولا تكرسها. * ماذا عن أحداث استاد بورسعيد؟ أنا لم أوافق على سفره إلى مباراة المصرى فى بورسعيد، وطلبت منه أن ينتبه إلى امتحانات منتصف العام وعمله وضرورة أن يحصل على مجموع جيد، ولكنه ألح عليَّ كثيرًا ووعدنى قائلاً "ده آخر ماتش هاروحه". (وصمتت للحظات تتذكر تلك الكلمات، وتتأمل معناها بعمق، حتى اغرورقت عيناها بالدموع). * كيف قضيتِ معه تلك الليلة التى سبقت السفر؟ حضر إلى منزلنا شباب المنطقة الذين يذهبون مع كريم لمباريات الأهلى، واجتمعوا وقام كريم بالرقص على أغانى الألتراس فى الشقة كلها، ضاحكًا فرحًا وكأنه يودع الشقة لآخر مرة، ثم استيقظ فى الصباح وسلم عليَّ، وكان التجمع أمام النادى الأهلى حتى يستقلوا الأوتوبيسات إلى بورسعيد فى الواحدة ظهرًا اتصلت به وقال لى لم نصل بعد؛ لأن القطار تأخر، وعندما سألته ولماذا لم تسافروا بالأوتوبيسات قال إنها رفضت أن تأتى لهم فاستخدموا القطار. * متى كانت آخر مكالمة أو اتصال به؟ عند انتهاء الشوط الأول اتصلت به حولى الساعة 6.30 م وقال لى "فيه حاجات كتير بتحصل غريبة يا ماما، فنحن نرى وجوهًا غريبة لم نعتد على رؤيتها فى المباريات، كما نرى كابوهات النادى المصرى يقتربون من جماهير النادى الأهلى ويلقون عليهم شماريخ وحجارة ويسبوننا بأقذع الألفاظ؛ لذا طلبت منه أن يترك المباراة، وإذا لم يتمكن لا يترك أصدقاءه حتى يعودوا معًا، وأغلقت الخط، وكانت هذه آخر مكالمة للاتصال معه. * متى عرفتِ بوفاته؟ أدركت أن ابنى مات منذ أول لحظة تم فيها الإعلان عن وقوع وفيات بالاستاد ، ولكن كان لديَّ اأمل وتكذيب لشعورى باستمرار، فلم أكن أتوقع أن القدر سيلعبها معى للمرة الثالثة، فقد استلمت جثتين من المشرحة قبل كريم لزوجيَّ الاثنين، فوالد كريم مات فى حادث قطار، ووالد نور الضابط مات فى حادث انقلاب سيارة وهو عائد من مأمورية من شرم الشيخ. أما كريم فكانت قصمة الظهر كلها، ولد فى عز شبابه وفرحتنا كلها يذهب ويقتل غدرًا، وتساءلت ما هذا العدد الذى راح ضحية المباراة؟ ولا كأن ولادنا كانوا فى حرب أو معركة. * هل كريم مات فى المدرج أم الممر؟ ابنى مات فى المدرج جرَّاء الضرب العنيف الذى تعرَّض له، لم يمت مخنوقًا كما يدعون بأن التدافع والازدحام سبب الاختناق، جسم ابنى كله به آثار ضربات وتورم فى الوجه. حسبى الله ونعم الوكيل، أنا لن أتمكن من رؤيته، وإخوتى قاموا بمنعى من رؤية ولادنا اللى ماتوا، بل الذى يحسر قلوبنا تلك المعاملة، ولادنا اترموا على الأرض فى المشرحة، لم يكن هناك تروللى يحمل أجسادهم التى قتلت غدرًا وظلمًا. * هل الحكم الأخير بإعدام 21 متهمًا وحبس قيادات أمنية كافٍ لك؟ فى الحقيقة الحكم بالإعدام على هذا العدد أراح قلوبنا المحسورة على أبنائنا، أعاد لنا حقوقنا بعدما شاهدنا من ذل وشتائم وإشارات مخزية من أهالى المتهمين أثناء حضورنا المحاكمات، ولكني أتعجب من براءة عدد من كابوهات ألتراس جرين إيجلز رغم تورطهم فى التحريض على هذه المجزرة، مثل ميدو والحمامصى، بالإضافة إلى براءة عدد من القيادات الأمنية، هذه كلها أمور مستفزة لأهالى الشهداء وتثير علامات الاستفهام. * ما رأيك فيما يوجه لاتهامات للألتراس تلك الأيام بأنهم بلطجية وقاموا بحرق اتحاد الكرة بعد محاكمة 9/3؟ هذا كلام عارٍ من الصحة،نريد من الإعلام أن يرحمنا كأهالى شهداء وألتراس؛ لأنهم لم يعرفوا الألتراس، لم يروا ماذا يفعلون مع أهالى الشهداء، وكيف يقدرونهم، لم يتذكر أحد فى هذه الدولة شهداء بورسعيد سوى الألتراس، الألتراس شباب متعلم ومثقف وواعٍ وكان معنا يوم المحاكمة داخل النادى الأهلى، وفوجئنا جميعًا باشتعال النيران فى مبنى الاتحاد، ولولا الألتراس لم يكن يأتي هذا الحكم ولا حق الشهداء. * بمناسبة عيد الأم، كيف كان يحتفل كريم بك؟ آخر هدية عيد أم من كريم عبارة عن عباءة وساعة ما زلت أحتفظ بهما حتى الآن ولم أرتدِهما، فقط أقوم بالنظر إليهما لأتذكر كل دقيقة قضاها كريم معى، ولا أعرف كيف سأقضى هذا العيد بدونه، أريد أن أختفى من الدنيا كلها، لكن سوف أذهب إلى مقابر كريم وأقضي العيد معه. * ماذا تقولين لهؤلاء الذين تلوثت أيديهم بدماء كريم؟ ردت بكل قوة: أنا لو شفتهم سوف أقتلهم، كيف أتحمل بعد 19 عامًا من تربية شاب فى مقتبل حياته أن أراه جثة هامدة،لقد انتهت حياتى مع كريم ودفنت وقتما دفنته بيدى. * وماذا تقولين لكريم؟ باطمنك يا حبيبى حتى آخر نفس فى حياتى هاجرى وراء حقك حتى أرجعه لك، حتى لو كان حقك عند رئيس الجمهورية.