منذ أربعين عاماً ، وبالتحديد في يناير عام 1972 ، انتفض جيل السبعينات من القرن الفائت ، انتفض مطالباً بالحرية وتحرير الأرض ، رافعاً شعار ( كل الديمقراطية للشعب .. كل التفاني للوطن ) ، انتفض بعد أن مر عام الحسم دون حسم ، وظلت إسرائيل رابضة على الضفة الأخرى من القناة ، ومعها كامل تراب سيناء ، الذي احتلته منذ هزيمة حزيران عام 1967 .. واختار شباب الثوار وقتها ، ميدان التحرير ، واعتصموا فيه بجوار النصب التذكاري ، أو الكعكة الحجرية ، كما كانت تسمى وقتها ، وهى قاعدة لنصب لم يكتمل بنائه .. وتعاطفت فئات عديدة مع اعتصام الطلاب وأيدته ، خاصة ساكني الشوارع المحيطة بميدان التحرير ، والمثقفين الذين اعتادوا الجلوس في مقهى ريش ، أو مقهى إيزافيتش ، المجاورين للميدان ، ومنهم بالطبع الشاعر الراحل أمل دنقل ( 1940- 1983 ) ، الذي شاهد عن قرب اعتصام الطلاب وتفاعل معه ، وخالط الحركة الطلابية وشبابها الثائر ، وظل معهم معتصماً ، ومردداً للأهازيج الحماسية ، والأناشيد الوطنية ، ومن قبل ومن بعد المطالب المشروعة في وطن حر ، وأرض محررة من العدو الجاثم فوق ترابها .. وفضّ الأمن اعتصام الثوار بالقوة ، في الخامسة صباحاً ، في ليلة من ليالي شهر يناير الباردة ، وتفرق الثوار الصغار وقتها في مجموعات صغيرة ، مرددين في بكارة الصباح وعند تباشير لحظات الشروق الأولى : إصحى يا مصر / إصحى يا مصر ، في كل ركن وطأته أقدامهم بعد فض الاعتصام .. ودار الزمن دورته بعد أربعين عاماً كاملة ، ويأتي ثوار آخرين ، ويختاروا نفس المكان ، ويظلوا مرابطين فيه سبعة عشرة يوماً كاملة ، حتى تحقق لهم ما أرادوا ، وأراد أباؤهم من قبلهم : كل الديمقراطية للشعب .. كل التفاني للوطن .. لأنه لم يكن شعاراً فقط ، بل كان حلماً ظل عالقاً في ميدان التحرير لأربعين عاماً كاملة ، وفى انتظار من يدق أجراسه ، ويحقق نبؤته ، ويعيد للآباء ، الذين غاب منهم من غاب ، ورحل منهم من رحل ، ذكريات ذلك اليوم البعيد ، الذي وئدت فيه أحلامهم ، وانهالت عليها الأتربة وتراكم السنوات .. ويوثق الشاعر الراحل أمل دنقل ، أحلام الآباء المجهضة في قصيدته البديعة : أغنية الكعكة الحجرية ، ويقول على لسان الثوار القدامى ، بعد أن غاب ما يحلمون به ، وتلاشى كالهواء .. اُذكريني! فقد لوّثتني العناوينُ في الصحف الخائنة! لوّنتْني.. لأنيَ منذ الهزيمة لا لونَ لي (غيرُ لونِ الضياعْ) ما أحوجنا الآن لشاعر في مثل شفافية أمل ، ليلامس بومضات الشعر حلمنا، الذي بدأت خيوطه البيضاء في اللمعان، وما أحوجنا لأمل جديد يهبنا لمعة الألوان ، ولا يعطينا لون الضياع .. طوبى لكل ثوار الوطن القدامى والمحدثين ..