لازالت أتذكر صيحة الناشطة "نوارة نجم" المملوءة بالفرح عقب إعلان عمر سليمان نبأ تخلي مبارك عن الحكم..على قناة الجزيرة التي كانت المعبر الأول عن الثورة آنذاك. فقد هتف نوارة بسعادة هيستيرية : "خلاص مفيش استبداد بعد اليوم، مفيش ديكتاتورية بعد النهاردة ". وفجأة انهالت علي اتصالات تليفونية من عدة وكالات أجنبية كندية وفرنسبة ..تسأل عن تقديري للمستقبل بعد رحيل مبارك ..فقلت لهم ما شاء الله لي أن أقول عن توقعاتي للمستقبل السعيد في مصر بعد زوال الديكتاتورية مع أعظم ثورة شعبية مصورة بالصوت والصورة ...وعاشت معها شعوب كثيرة لحظة بلحظة . وهكذا أنهيت هذه الاتصالات التليفونية سريعا ..وحملت صورة عبد الناصر المعلقة على حائط غرفة الاستقبال في منزلي ..وتحركت الى ميدان التحرير مع صديقي في ليالي الثورة الباردة "هشام عزت"، وفي التحرير كان المشهد لا يصدق، الميدان وكل ما حوله يغص بالآلاف في حالة فرحة غامرة وهم بين الشك والتصديق في رحيل الطاغية الذي جثم على روح مصر أكثر من ثلاثين عاماً. كانت صورة عبد الناصر المرفوعة في يدي لها فعل السحر في هذا المشهد المنفعل وفي هذا الفيضان البشري المتلاحم ..كان الشباب الصغير يستوقفني ..أنا وهشام .. لكي يلتقطوا لنا صورا لي رافعين صورة عبد الناصر التي كانت الوحيدة تقريبا في الساعات الأولى لرحيل مبارك ...وهكذا أخذ شباب صغير السن يطلب منا بأدب شديد أن يحملوا للحظات صورة عبد الناصر لكي يلتقط لهم رفقاؤهم صورا مع " عبد الناصر " !!! والأكثر إثارة للدهشة ..هذا العدد الكبير من الشباب صغير السن الذين يلوحون لي بعلامة الاعجاب بعبد الناصر ..الي لم يعيشوا أيامه ..أو يقترب مني شاب صغير ليقول لي " هذا هو الرئيس الذي نحتاجه "!! ونحن نشق طريقنا ..أنا وهشام عزت من شارع طلعت حرب باتجاه ميدان التحرير مال علي هشام ليقول: كل هذا الفرح لرحيل مبارك..أين كانوا كل هذه السنين؟!! لم أعقب ..فقد كان السؤال يدخل في عمق الشخصية المصرية ..في التاريخ والجغرافية وعلم النفس الاجتماعي. وعند ميدان طلعت حرب ..كانت شاهندة مقلد تتوكأ على عصا ...ولكنها تمشي بحماسة شابة في الثلاثينات ..وحين لمحت صورة عبد الناصر مرفوعة بين يدي ..شدتها لتقبل عبد الناصر!! في هذه الليلة المفعمة بالفرحة.. وحيث صور عبد الناصر القليلة تفعل فعلها الساحر في المواطنين ...كنت أتساءل لماذا لم يحمل الناصريون الذين شاهدتهم في تلك الليلة صورة أعظم ثوري في تاريخ مصر المعاصر؟!! حتى في هذا الليلة ..وقبلها ..وبعدها ..كانت صورة عبد الناصر هي صورة الثورة التي تدمع عيون الشباب والشيوخ لمرآها ومضت أيام وأسابيع وشهور ...وتحولت صرخة " نوارة نجم " المفعمة بفرحة رحيل الديكتاتور ...الى صرخة إدانة لحكم العسكر الذي بدأه عبد الناصر!! وتبعها في ذلك شباب حديثو السن ..وشيوخ طاعنون ..دون تفرقة بين عسكري كعبد الناصر ... قاوم بشراسة الاستعمار وأنصف الفقراء والكادحين وأنقذ مصر من الفاشية الدينية مرتين في 1954 وفي 1965. وبين ديكتاتور عسكري كمبارك.. محدود الذكاء والكفاءة.. أو كعسكري آخر كطنطاوي الذي فرط في ثقة الشعب به وأهدر أعظم ثورات الشعب المصري وأكثرها إبهاراً للعالم ... أو حتى التفرقة بين عسكري مملوء بحلم ثوري لتغيير وطنه كجمال عبد الناصر وبين رئيس مدني منتخب لا يجيد إلا الخطب الدعوية في المساجد ويؤسس لديكتاتورية دينية تعود بمصر عشرات القرون للوراء؟!!. مابين صرخة نوارة الأولى وصرخاتها التالية يقف حائط سميك من عدم الوعي بالتاريخ وبنفسية الشعب المصري وتعالي وغرور النخبة المسماة " بالثورية ".. Comment *