الحمدلله، يستطيع المرء أن يحيي ويشيد بالرئيس الروسي أو يصفه باللقب الامبراطوري "القيصر" دون ان يخشي كثيرًا من دمغه بالعمالة للسوفييت أو التبعية للشيوعية الدولية. لم تعد في بلاد الروس سوفييتيات ولا شيوعية ولكن هناك ثوابت روسية مابين الامبراطورية والسوفيت وروسيا اليوم، التي تبحث في جميع الأحوال عن مصالحها وتحاول تثبيتها والدفاع عنها. الساحة الدولية ميدان مصالح متبادلة، سواء متصارعة أو متوازنة حسب تعبير آخر زعيم سوفييتي حسب تعبير، صاحب "البريسترويكا" ..ومن هنا، من المهم في التفاعل مع الروس البحث عن المصالح المتبادلة التي يبدو أنهم يعرفونها أكثر منا نحن العرب، ويعرفون كيف يدافعون عنها، وكيف يتعلمون من أخطائهم، بحيث لا يتكرر اليوم ما ارتكبه "السوفييت" هنا أو هناك وأضعف مصالح كثيرة لهم. تنبهوا لذلك واليوم يدافعون عن هذه المصالح، البعض يري أن هذا الدفاع يتم بقوة والبعض يري أنه يتم بنرجسية وعلي حساب الشعب السوري الذي لا يقيم الروس لآلامه وزنًا وهذه قضية قابلة للنقاش، فلا توجد سياسة صحيحة مائة في المائة،لايأتيها الباطل من بين يديها أو خلفها. بل تعرف كل سياسة عوامل النقص،لايجوز –في السياسة الصحيحة-أن تطغي علي جوانب الكمال ولعل هذا ما يبدو من تصريحات شبه مفاجئة في توقيتها، أدلي بها الرئيس الروسي في يومي الخميس والجمعة الماضيين 20،21 ديسمبر الحالي وفي مناسبتين مختلفتين، أوضح في كل منهما سياسة بلاده تجاه كثير من القضايا الدولية وركز بشكل كبير علي الموقف من الأزمة السورية والذي لخصه في أن روسيا تدافع عن سوريا الدولة وليس عن سوريا النظام. وضوح العبارة لا ينفي أنها يمكن أن تكون محملة بمعاني وإيماءات أو إشارات مختلفة. منها مثلًا أن بوتين بعد أن رأي سفينة النظام السوري توشك علي الغرق لم يعد بقادر أن يعارض إمكانية التخلص من النظام ورئيسه بشار الأسد. لوصح هذا لبقي لروسيا بوتين دفاعها عن "سوريا الدولة " بينما هناك عرب يدمرونها وهذا دفاع تاريخي أن تمكن من أن يحفظ لسوريا وحدتها ويحافظ علي كيانها وإمكانياتها وجنبها شر مخطط التقسيم والتفتيت. لماذا نذهب بعيدًا؟، أليس من الأجدي أن نقف عند نص أو بعض تصريحات القيصر الروسي في يومين متتاليين وفي مناسبتين مختلفتين، ثم نحاول أن نري ظروف وملابسات هذه التصريحات وهل هي تعبير عن سياسة جديدة أم استمرار لسياسة روسية منذ بدء الأزمة، ثم إلي أين يمكن أن تسوق الرياح الإقليمية والدولية هذه الأزمة في العام القادم والذي سيشهد في بدايته الفترة الرئاسية الثانية لباراك أوباما.. وإلي ذلك اليوم من المتوقع أن تشهد الأزمة السورية أعنف معاركها وأكثرها دمارًا وتخريبًا وقتلًا وسفكًا لدماء بريئة وغير بريئة. المرة الأولي التي تحدث فيها بوتين عن الأزمة السورية، كانت في أول مؤتمر صحفي شامل منذ توليه الرئاسة للمرة الثانية. حضر المؤتمر أكثر من 1200 صحفي روسي وأجنبي، تناول المؤتمر قضايا عديدة داخلية وخارجية مثل التطرف الديني والإرهاب والحجاب والغزو الحضاري والثقافي وفي رده علي سؤال يبدو انه كان متوقعا أو مرتباً تحدث بوتين عن أن ليبيا تتعرض للتفكك الان وتشهد أرتكاب أخطاء وجرائم مثل مقتل السفير الأمريكي وانطلق من هذه المقدمة الموحية ليؤكد "أن موسكو لا تريد أن تشهد سوريا نفس مصير ليبيا". وأضاف أن ما تهتم به بلاده في سوريا هو وقف الحرب الأهلية ومنع تعرض المنطقة وسوريا للتفكك وليس مصير النظام الحاكم. فروسيا تري لها مصلحة في إنقاذ هذا البلد من الحرب والتفكك، ثم مدد القيصر معالم التسوية السورية من وجهة نظر موسكو وهو أن يتفق السوريون فيما بينهم علي كيف يعيشون، ثم يتفاعلون مع قضية الحكم وليس العكس، مشيرا إلي أنه لا يمكن أن يمهد أي انتصار عسكري للاتفاق المطلوب تحقيقه. معني هذه الكلمات، أن روسيا لم تغير موقفها من رفض رحيل النظام الروسي القائم أولا، فهي لا تزال تري فيه جزء من الحل ووضح هذا من قول بوتين: لا يوجد مكان لاتفاق يستند إلي انتصار عسكري. فلن يكون مثل هذا الاتفاق مجديا. ومن المعروف، أن روسيا أعلنت وجهة نظرها هذه في عددٍ من اللقاءات مع قادة من المعارضة، سواء في ذلك المعارضة السورية الداخلية أو المعارضة الخارجية. واللافت للاهتمام في مؤتمر بوتين الصحفي، أنه في حديثه عن العلاقات الروسية-الأمريكية أرجع تدهورها إلي الخلاف حول العراق وتساءل: "هل كانت وسائل حل مشكلة صدام حسين مناسبة أم لا؟، إنه سؤال صعب ولكنني أظن أن مثل هذه الوسائل لا تقبل الجدل وأن هذا يفسد علاقتنا". أعتقد أن الإشارة هنا واضحة، والمعني ليس في بطن القيصر بل علي لسانه: موسكو لن تقبل في سوريا ما حدث في ليبيا ..أي أن التدخل الأجنبي المباشر ممنوع أو مرفوض. ومن المعروف أن بوتين وأوباما التقيا في 19يونيو الماضي في المكسيك علي هامش "قمة العشرين" وأصدرا بيانًا مشتركًا تضمن أنهما توصلا إلي"نقاط تفاهم مشتركة حول كيفية علاج الازمة السورية"، فهل رأي بوتين في الموقف الأمريكي خروجًا وابتعادًا عما تم الاتفاق عليه؟. دون أن نبتعد عن هذه النقطة، فإن هناك أنباءً صحفية عن اجتماع دبلوماسيين روسي وأمريكي مع المبعوث العربي الدولي إلي سوريا الأخضر الإبراهيمي، بعد أن يقوم الأخير بزيارة دمشق والاجتماع مع الرئيس بشار الأسد. فهل جاء موقف بوتين المحدد من تجنب انهيار سوريا الدولة ليضيع جدول أعمال هذا اللقاء؟ علي أي حال، في اليوم الثاني للمؤتمر الصحفي العالمي في موسكو، أي في يوم الجمعة 21ديسمبر وفي العاصمة البلجيكية بروكسل وبعد قمة الاتحاد الأوروبي مع روسيا، قال بوتين في مؤتمر صحفي أيضا: أن روسيا لا تريد أن تعم الفوضي سوريا. لماذا؟ لأن "سوريا ليست بعيدة عن حدودنا ولا نريد أن تعمها الفوضي، كما نلاحظ في بعض بلدان المنطقة" وبعد أن أكد أن بلاده ليست المدافع عن السلطات السورية، أوضح أنه: من أجل التوصل إلي اتفاقات علي المدي البعيد "يجب الاتفاق أولًا علي مستقبل سوريا، وعلي مصلحة جميع مواطنيها وجميع أقلياتها الإثنية والطائفية". و"إعلان بوتين" هذا ليس بجديد تماما. لكنه هنا أشبه ببيانإلي من يعنيه الأمر وبرسالة لا تضل المرسلة إليه. في يوليو الماضي مثلًا عقد سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي اجتماعًا مع سفراء الاتحاد الأوروبي في موسكو، وشرح لهم موقف بلاده من الأزمة السورية. وقيل إنه لخصها في ثلاثة مصطلحات: الأول أنها أزمة جيوسياسية، الثاني: من الضروري حلها بشكل مرن، الثالث: روسيا لاتتمسك بالأسد، لكنها ترفض حديث تنحيته أولا قبل الحديث في أي موضوع آخر، "أي أن روسيا لا تتمسك بالأسد، بل أن مصيره يقرره حوار سوري شامل". ومن ثم يأتي حديث بوتين في يومين متتاليين، وفي موسكووبروكسل، ليضع النقاط علي الحروف، كما يقولون. والتوقيت في السياسة، ممارسةً وكلامًا، مهم. فلماذا الآن؟. هناك سلسلة تطورات مهمة في المعارك الدائرة علي الأراضي السورية من أبرزها تزايد حدة المعارك واتساعها وتلقي المتمردين أسلحة ومعلومات لم تكن تتوفر لديهم من قبل، من أخطرها الصواريخ المضاده للطائرات. هذا إلي جانب نشر حلف الأطلنطي أي بمشاركة الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، صواريخ "باتريوت" علي الحدود التركية-السورية. عامل ثالث آخر مهم، أن عملية تفتيت سوريا قد بدأ تنفيذها. إذا أعلنت كتائب مقاتلة منطقة الشمال السوري "إمارة إسلامية تقيم شرع الله". وظهرت في ريف حلب "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وبدأ تسيير دوريات من مقاتلين عرب وأجانب تجبر المواطنين علي أداء الصلاة. وفي الوقت نفسه فإن ضعف النظام السوري سمح للأكراد بإعلان حكم ذاتي. في مقابل هذا، لاتزال موسكو تتمسك "بقوة بالجيش السوري والحفاظ علي قدرته القتالية للدفاع عن الدولة سوريا". هذا ما نقلته "السفير" اللبنانية عن معارض سوري، في 6 ديسمبر الحالي. حيث ورد تعبير "الدفاع عن الدولة في سوريا"، قبل أن يتحدث عنه بوتين نفسه بحوالي أسبوعين. ونسب محمد بلوط إلي معارضين سوريين أن وزير الخارجية الروسي قال لهم في اوائل ديسمبر الحالي: "لقد سمعنا كثيرًا في الماضي عن قرب محاصرة القصر الجمهوري في دمشق ولن ندافع عنه، لكننا لن نساعد لا في ترحيل الأسد و لا في الإبقاء عليه. غير أنه إذا استطاع الصمود، فهناك أنظمة أخري في المنطقة قد تسقط قبل نظامه". وهذا كلام إن صدق، فإنه لا يقل أهمية عن كلام القيصر بوتين في مؤتمريه الصحفيين. بل إن كلام لافروف يمتد إلي إمكانية سقوط أنظمة في المنطقة قبل أن يسقط الأسد.. ومع ذلك، فإن تصريحات بوتين بشأن سوريا والتي حملت في ثنايها أنه لا يوجد حل عسكري للأزمة السورية قد تزامنت مع تصريحات الدكتور فاروق الشرع نائب الرئيس السوري عزف فيها النغمة نفسها تقريبا. فهل هذه مجرد مصادفة أن يصف الشرع الحسم العسكري بأنه وهم؟ ثم يدعو إلي "مصالحة تاريخية". قد لا يكون هذا مفاجئا من الشرع، ولكن أن يعلنه علي الملأ، هذا هو الجديد والمثير. وما بين بوتين والشرع، وما بين موسكوودمشق يبقي السؤال: متي تدرك الأطراف -خاصة العربية- التي تغذي الصراع في سوريا بالسلاح والمال أنها تقوض دولة مهمة في قلب الوطن العربي، وأن تقويضها ستمتد آثاره الخطيرة حتي إلي أولئك الذين يشاركون في عملية التقويض، فهل لا يدرك هؤلاء مواضع أقدامهم؟. ليس مطلوبا منهم أن يدافعوا عن سوريا الدولة كما تفعل روسيا، ولكن المطلوب منهم أن يرفعوا أيديهم عن سوريا الدولة..أي سوريا الشعب والوطن. فهل يدركون؟ ليتهم يدركون. Comment *