تملكتني الحيرة، وأنا أحاول تفسير ما قصده السيد الرئيس في خطابه الأخير، عندما قال: "لتنزل الأقلية على إرادة الأغلبية"، استرجعت من الذاكرة كل ما قرأت وعرفت عن مفهومي "الأغلبية"، و"الأقلية"، فلم تدلني ذاكرتي على تفسير يتطابق مع مفهوم الرئيس، لا سيّما لمصطلح "الأقلية"، فأية أقلية يقصد؟ وما هي المعايير التي جعلته يصنف كل المعارضين والمعترضين على سياساته بهذا الوصف؟ وبصرف النظر عن أن كل شيء يُفعل للرئيس، فسأفترض أنه صاحب المفهوم، والرؤية، والصياغة، وهذا التوصيف الحاسم القاطع. عندما بحثت عن تعريف للأقلية فوجدتها لا تعبر إلا عن مجموعة من سكان الدولة، التي تخالف الأغلبية في الانتماء العرقي، أو اللغوي، أو الديني، دون أن يعني ذلك بالضرورة موقفًا سياسيًا وطبقيًا متميزًا، ويستخدم هذا المفهوم أحيانًا بمعنى طبقي سياسي أيضًا، كأن يقال أقلية حاكمة. وعند مطابقة ذلك بالواقع، لم أر المعارضين الذين امتلأت بهم ميادين مصر مختلفين في العرق أو اللغة، وأغلبيتهم يعتنقون الإسلام، دين "الأغلبية" ورئيسها. فقررت أن أبحث في مفهوم "الأغلبية"، وأستعيد معلوماتي عنه، ربما أصل إلى تفسير صحيح لنقيضه، فوجدته مصطلح لا يستخدم إلا للدلالة على كل تكتل، أو مجموعة تفوز بأكثر من نصف أصوات المقترعين، أو بأكثر من نصف المقاعد في هيئة شعبية أو تمثيلية، كما تعني "الأغلبية" أيضًا مجموع القوى السياسية التي تحكم بلدًا ما، استنادًا إلى دعمها من قِبل أكثر من نصف أعضاء البرلمان، فسألت نفسي: وأين البرلمان؟ وإذا لم يكن موجودًا، فإلى ماذا تستند جماعة معينة في حكمها ؟ إلى كون رئيس الدولة فردًا منها؟ وهل هذا يعني أنه وجماعته يشكلون الأغلبية؟ حتى وإن كان وصوله إلى سدة الحكم، جاء بحصوله (شخصيًا) على أكثر من نصف الأصوات، التي جاء أكثر من نصفها من خارج جماعته؟ حاولت مصممة أن أبحث عن هذا التعريف المستعصي على الفهم لمصطلح "الأقلية"، الذي استخدمه الرئيس، من زاوية أخرى، فربما يقصد أنها "الأقلية" المتناقضة مع ما يسمى "الأغلبية الصامتة"، والتي يوصف بها مجموع الأفراد الذين يعارضون الشكل القائم لتطور الأمور في المجتمع دون أن يلجأوا إلى أي شكل من أشكال التعبير للإعلان عن هذه المعارضة، وقد يمثل هؤلاء غالبًا الجزء الأكبر من السكان، فيما تكون على النقيض تمامًا من الأقلية الفاعلة، التي توحي عبر نشاطها وتعبيرها عن مواقفها في كل مناسبة بأنها أقوى مما هي في الواقع. لكني وجدت أن هذه "الأغلبية" قد خرجت عن صمتها، وبادر جزء منها بالاحتجاج على سياسات الرئيس وجماعته، فانضم إلى الأقلية الفاعلة، ولو نسبيًا، فمن أين جاءت حماسة الرئيس ويقينه في أنه وجماعته "الأغلبية"، وما عداهم "أقلية"؟ في النهاية، وحتى لا تغلبني حيرتي، قررت أن أخرج من دائرة التفسيرات النظرية، لأصل إلى مفهوم "الأقلية" عند الرئيس، كما دللت عليه الوقائع، وسلوكيات الجماعة (أفرادًا وقيادات)، ومنهم رئيس مصر، وهو ما سيؤدي إلى فهم معنى "الأغلبية" أيضًا، الذي يدّعون أنهم يمثلونها، ويحكمون باسمها. فوجدت الآتي: إنها "أقلية" بحكم اختلاف الانتماء الديني، (وإن كانت مسلمة)، حيث إن "الأغلبية" المزعومة تدعي في مواجهتها للأقلية، نصرة الإسلام، والدفاع عنه، حتى وإن تجاوزن آليات هذا الدفاع ما هو مسموح، إسلاميًا، باستخدامه مع الكفار، والمشركين، وأعداء الدين، في معارك وجودية. إن "الأقلية" هي بالضرورة مجموعة من المجرمين، والبلطجية، المعتدين على الشرعية والإسلام في آن، ما تطلب ردعهم، وحماية الشرعية والإسلام، في الوقت الذي تقاعست فيه أجهزة الدولة عن الإجهاز عليهم، وهو ما اضطر "الثوريين السلميين"، "حماة الشرعية والشريعة"، إلى القيام بدور تلك الأجهزة. إن "الأقلية" هي بالضرورة مجموعات ممن تحركهم القوى المضادة للثورة، التي تريد اغتصاب السلطة، وعزل الرئيس المنتخب، لذا تحتم حصارهم، والقبض عليهم، وتكبيل أيديهم وأرجلهم، وتبريحهم ضربًا، مع محاولة فرز "الثوار الحقيقيين، من بينهم، وربما كان هذا هو السبب الرئيسي لاختطاف بعض شباب "الأقلية" من أمام قصر الاتحادية، حتى تستطيع "الأغلبية" فرزهم! "الأقلية" هي "العصابة المعارضة"، كما وصفتها جماعة "الأغلبية"، وتعبر عنها صحف مأجورة، وشاشات تبث سمومًا، فتزور الحقائق، وتحرض على الانقلاب على الشرعية، وهدم مؤسسات الدولة، في حين أن إعلام "الأغلبية" غير طائفي، وغير محرض على قتل "الأقلية"، وقادتها، ورموزها، وقواها الحية! ومع ذلك وجدت أن رؤية سيادة الرئيس وجماعته لمفهوم "الأقلية" هذا، وقناعتهم بأنهم بالتأكيد "الأغلبية"، لا تبرر تصرفات الرئيس وسلوكيات الجماعة، فالأغلبية لا تتبنى خطاب المُضطهَد، الذي يواجه مؤامرة كبرى، ثنائية الأطراف (داخلية وخارجية)، كلغة لاستمالة ودغدغة مشاعر من هم على بعد خطوة من التعاطف، أو من تحولوا قليلاً عنه، وفي الوقت ذاته من أجل الحفاظ على وحدة التنظيم، وتماسك بنيته، القائمة على قاعدة (طاعة الأوامر)، أيًا كانت، وخاصة وقت الخطر، عبر خطاب تعبوي، ليس هو الآخر سمت "الأغلبية" في أي مكان. "الأغلبية" لا تقوم بغزوات على غرار "غزوة القصر"، الامتداد الطبيعي ل "غزوة الصناديق". "الأغلبية" لا تحتاج إلى تهديد الإعلام، وترويع رجاله، ومحاصرة استديوهاته، لأنه منبر للأقلية، بادعاء تطهيره، وتحت شعار مساندة الرئيس، ممثل الشرعية. "الأغلبية" عندما تختلف مع "الأقلية"، لا تدفع بالصدام إلى الأرض، وتعلن حالة "الاستنفار"، وهي كلمة تطلق على الحالة التي ينتقل فيها الجيش، أو الميليشيا المسلحة، من حالة السلم إلى حالة الاستعداد للقتال، أي الحالة التي تستطيع فيها التحرك بكامل تعدادها، وسلاحها، دخول المعركة، فور تلقي التعليمات. أو على الأقل، تستخدم تلك الكلمة كوسيلة من وسائل الحرب الباردة، أو الضغط المعنوي، بالطبع، على العدو. وإذا كان الرئيس مقتنعًا بأن "الأغلبية" معه، وستصوت لصالحه، فلماذا يخشى إجراء انتخابات رئاسية بعد إقرار الدستور، ويضع (رجاله) للحيلولة دون ذلك مادة في (دستوره) "اللقيط"، تضمن بقاء الرئيس، وإن كرهت "الأقلية". وإذا كان الرئيس قد أخطا في تفسيره لمفهومي "الأقلية"، و"الأغلبية"، فليعلم أن مصر لا تحتمل رفاهية الخطأ في لحظة كالتي تمر بها، لذا فعليه أن يقرأ جيدًا معطيات معادلة القوة في مصر اليوم، وليخرج من حالة التيقن، التي تصدرها له جماعته، بأنهم الأغلبية، وأن من التحفوا بالصمت سيخرجون عن صمتهم؛ لينحازوا إلى رئيس لم ينحز لشعبه، الرئيس، الذي تجاهل وجماعته، موقف هذا الشعب الغاضب تجاه سياساته في مجملها، وعناده، وإصراره، ودعوته الفضفاضة الجوفاء للحوار الوطني، وتجاه موقفه من اعتداء جماعته الغاشم على المعارضين "الأقلية" أمام القصر، القصر الذي ذهب إليه على أكتاف هذه "الأقلية". Comment *