من نافلة القول، أن قوى المعارضة، فى ضوء تعقيدات المشهد السياسى الراهن، لا تملك رفاهية هدر الوقت والجهد، مما يطرح ويفرض عليها حتمية تبنى ونهج آليات حقيقية وعملية للعمل الجماهيرى. ورغم صعوبة التحديات التى تحملها الشهور القليلة القادمة، من تبيان أوجه العوار فى مشروع الدستور المرتقب، الذى يتوجب أن يكون، فعلياً، موضع توافق مجتمعى، وليس كونه تعبيراً عن مصالح حزبية،أو لتجسيد مشروع قوى الإسلام السياسى، بمختلف تنويعاتها. وفى ضوء المعطيات الحالية، تملك القوى الأخيرة، بحكم طبيعة تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور، رغم كل الانتقادات والجدل القانونى المتعلق بهذا التشكيل، تملك إمكانية تمرير هذا المشروع وطرحه للاستفتاء العام عليه. وليس من قبيل قراءة الغيب، أن تعمد هذه القوى إلى توظيف واستخدام المكون الدينى المقدس لتحقيق هذا الهدف، أسوة بموقعة "الصناديق" المشهورة لدى طرح بعض التعديلات الدستورية فى 19 مارس، بعد ثورة 25 يناير، وهى التعديلات التى صاغتها اللجنة المشكلة برئاسة المستشار طارق البشرى، والتى شوهت مسار المرحلة الانتقالية، والمبرر لما نعانيه حالياً، عندما لم تتبنى خارطة طريق عملية لخطوات التحول الديمقراطى بعد الثورة، من تشكيل مجلس رئاسى مدنى وعسكرى، ثم وضع الدستور الذى بموجبه وعلى هديه، تتم الاستحقاقات النيابية والرئاسية. ومن المزمع فى حال إذا جاءت نتيجة التصويت على استفتاء الدستور بنعم، أن تجرى الانتخابات النيابية فى غضون شهرين. وتتسع دائرة التفاؤلات فى أن تتمكن القوى المدنية من تشكيل معارضة وطنية قوية تقلص بدرجة ملحوظة من حالة هيمنة واستئثار قوى التيار السياسى الإسلامى على مجمل المشهد. وفى هذا السياق، لا يتوجب أن يذهب بنا الشطط والخيال التحليلى بعيداً عن أرض الواقع: فقوى تيار الإسلام السياسى تتميز بسمة الالتزام الحزبى، والقدرة على التعبئة والتحشيد، والقدرات المالية الفائقة، سواء الداخلية أو الخارجية، التى تتيح لها تقديم خدمات جماهيرية، تقرب من دور الدولة الاجتماعى المفقود بقوة، أو الإنفاق على الحملات الانتخابية والدعاية والخدمات اللوجيستية، الأمر الذى تفتقده القوى السياسية الأخرى، لأسباب لا يتسع المجال لذكرها. وبعيداً عن الأحزاب "الكرتونية" السابقة والتى كان الكثير منها أشبه "بأحزاب القصر" تؤدى دورها فى لعبة الديكور الديمقراطى، يمكن رصد حداثة نشأة الكثير من أحزاب المعارضة بعد ثورة 25 يناير2011، بما يؤكد حقيقة أنه ليس بمقدور أى حزب منها بمفرده تحقيق كل الطموحات فى تجسيد الشعارات والأهداف الرئيسية للثورة: عيش.. حرية.. تغيير.. عدالة اجتماعية واستقلال وطنى. وبالتداعى المنطقى، فهذه المعطيات تحتم ضرورة التنسيق والعمل المشترك بين قوى الثورة الحقيقية، والدفع بأفضل العناصر وأكثرها شعبية، والتكتل خلفها، بصرف النظر عن هويتها الحزبية، لأن الانتصار سيكون حتماً لمصلحة الثورة وتحقيق شعاراتها. وحسناً فعل الكثير منها بالدخول فى تحالفات واندماجات وتكتلات نتمنى أن يكتب لها الاستمرار والنجاح. والحقيقة أن قوى تيار الإسلام السياسى معروف كتلتها التصويتية التى يصعب اختراقها، رغم أنها محدودة نسبياً بالقياس مع إجمالى من لهم حق التصويت، وعليه يتوجب التحرك صوب زيادة رقعة المشاركة السياسية من بين القطاعات التى تعزف عن المشاركة عبر صناديق الاقتراع، عبر حملات التوعية والتثقيف، والسعى لحشدها لصالح القوى المدنية، وبالطبع هذا مجال رحب وواسع، وفضاءات هامة محتملة ومهمة للعمل الجماهيرى الجاد والواعى. ومما له صلة ،بات من المحتم تجاوز مرض "النخبوية"، شكلاً وموضوعاً، والسعى الجاد للوصول لأحزاب جماهيرية حقيقية، مما يفرض ضرورة البعد عن أضواء العاصمة الباهرة، وتعميق التواصل مع القواعد الجماهيرية فى عموم البلاد. وثمة حتمية تفرض على قوى المعارضة الوطنية السعى لإجادة العمل الجماهيرى الحقيقى، وابتكار آليات جديدة تعمق من الالتحام بهموم وقضايا الناس، والعمل على زيادة العضوية وتفعيلها، وتفجير طاقات الأعضاء، والوصول إلى أعماق المجتمع لرؤية الناس كما هم، وليس كما نتصورهم. ومن الأهمية بمكان التواصل مع التجمعات الطلابية والشبابية المستودع البشرى الهائل للقوى المدنية، ورصيدها المأمول، وبالمثل تبنى قضايا العمال والفلاحين، والدفاع عن حقوقهم والمشاركة فى معالجة قضاياهم. كما يحتل العمل التطوعى مكانة متميزة لتعويض القصور فى القدرات المالية، وإتاحة الفرصة للمشاركة الجادة فى حملات محو الأمية، والقوافل العلاجية والخدمية، من تعليم ونظافة وتنمية المواهب والقدرات وغيرها. والقول الخاتم، وعلى الرغم من أن الفترة المتاحة للانتخابات البرلمانية ليست كبيرة، لكن لابد من توظيف ما طرأ على البيئة والمشهد السياسى من تغييرات، أبرزها حالة السخط والاستياء من أداء تيار الإسلام السياسى، والهواجس والمخاوف العديدة لدى قطاعات ليست بالقليلة من الشعب، وغير ذلك كثير، لجهة دفع قوى الثورة الحقيقية لحضور يعتد به فى داخل البرلمان، لتشكيل معارضة وطنية مؤثرة تحد من إنفراد فصيل بعينه على الحياة البرلمانية، وعلى القرارات ذات الصلة بمستقبل البلاد، وأهمية طرح بدائل واقعية ومحددة تتعلق بواقع حياة الناس وهمومهم تزيد من مصداقية المعارضة وقدرتها على كسب فضاءات إضافية فى منافسات انتخابية متتالية، وعدم تشتيت الجهد فى معارك فرعية أو هامشية، وإدراك أن ذلك عملية مستمرة، لترسيخ وجود وتواجد معارضة وطنية مدنية حقيقية، تسعى لصالح كل الشعب، وليس لأغراض شخصية، أو مشروع يغير من طبيعة وهوية البلاد، وآفاق حاضرها و مستقبلها. Comment *