تعاطيت بسعادة بالغة ، فى زمن شح فيه هذا الشعور، وندرت فيه البسمة، مع الأنباء الواردة حول قيام وكلاء مؤسسى " حزب الدستور"، بتقديم عشرة آلاف و700 توكيل، من جملة عشرين ألفاً، لمقر لجنة شئون الأحزاب، ضمن إجراءات تأسيس هذا الحزب الجديد، والذى من المأمول، والمستهدف، أن تبلغ جملة العضوية فيه أكثر من مليون عضو عامل، خلال فترة ليست بالطويلة. واستقبل العديد من رموز الحياة الحزبية والسياسية هذا المولود الجديد بقدر كبير من التهنئة والترحاب، لما يمكن أن يمثله من إضافة ايجابية، ويولده من تحريك لمياه الحياة الحزبية الراكدة. ودون الإبحار بعيداً فى خضم محيط التفصيلات التاريخية، تتوافر لدينا إمكانية القول بأن عودة الحياة الحزبية فى النصف الثانى من سبعينات القرن الفائت، بعد فترة انقطاع منذ ثورة 23 يوليو 1952، وتعطيل الحياة الحزبية، وهيمنة صيغة التنظيم السياسى الواحد ، تحت مسميات مختلفة : الاتحاد القومى ، الاتحاد الاشتراكى ، هذه العودة ، التى استهلت بصيغة المنابر: وسط، يسار، يمين، ثم صدور القانون المنظم لشئون الأحزاب السياسية، قد اتسمت بولادة قيصرية، ومن ثم، بولادة مشوهة، برز فيها هيمنة وسطوة الحزب الحاكم، عبر سيطرته على عملية تكوين وتأسيس الأحزاب، بالموافقة، وليس بمجرد الإخطار، يسمح بما يشاء، ويتعمد حجب من يراه خطراً على سيطرته، وكانت المحصلة فى النهاية، أكثر من 23 حزباً، ليس بمقدور أحد الإلمام بها، سوى بضعة أحزاب لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة. ونتيجة القيود وتقييد الحركة، باتت تلك الأحزاب أسيرة الحركة داخل المقرات، بل أصبحت " جرائد " لها أحزاب .وتضافرت معاول الهدم الموضوعية، مع الأمراض الذاتية، لتفجر الكثير من الأزمات والتناحر، والانشقاقات التى دوما ما كان يرعاها الحزب الحاكم ، وغياب الديمقراطية والتداول السلمى، والتجديد فى القيادات التى أصابتها الشيخوخة وتقدم العمر ومن ثم التكلس والوهن . والمحصلة، أحزاب ورقية كرتونية، الكثير منها أشبه " بأحزاب القصر" تؤدى دورها فى لعبة الديكور الديمقراطى . وفى السياق ذاته ، تتسع دائرة التفاؤلات فى أن يكون " حزب الدستور " إضافة ذات دلالة ايجابية فى المشهد السياسى الحزبى على أعتاب انتخابات برلمانية قريبة، ليشكل معارضة وطنية قوية، تقلص بدرجة ملحوظة من حالة هيمنة واستئثار قوى التيار السياسى الإسلامى على مجمل المشهد . وتحت شعار " حزب كل المصريين "، يزخر الحزب الوليد بالكثير من التنويعات الفكرية والدينية والعمرية والمناطقية ، وما تم الإعلان عن بعضها، عطفاً عن المؤسس الأول، د. محمد البرادعى، وما لعبه قبل الثورة، وبعدها، من دور بارز ومؤثر فى الحراك السياسى للبلاد، يشير لتواجد قيادات ذات ثقل فى العمل الوطنى العام، نذكر منهم، على سبيل المثال، لا الحصر، المناضل جورج إسحاق، و" عيون قلب مصر"، كما يحلو لى تسميته، د. أحمد حرارة، ود. شادى الغزالى حرب، ود. أحمد دراج، والإعلامية جميلة إسماعيل، وبثينة كامل، ود. عماد أبو غازى، وغيرهم كثيرون. ومما لاشك فيه، أن هذا الحزب مطالب بتجاوز مرض "النخبوية"، شكلا ً وموضوعاً، ليصبح فعلياً حزباً جماهيرياً حقيقياً، وكم أسعدنى أن يكون أثنين من نواب رئيس الحزب، من خارج العاصمة، بما يعمق التواصل مع القاعدة الجماهيرية للحزب، بعيداً عن أضواء العاصمة الباهرة. وفى هذا الخصوص، يتوجب على الحزب إجادة فنون العمل الجماهيرى الحقيقي، وابتكار آليات جديدة، تعمق من التحام الحزب بهموم وقضايا الناس، والعمل على زيادة العضوية وتفعيلها ، وتفجير طاقات أعضائه ، عبر آلية تشكيل قوافل علاجية وخدمية تصل إلى أعماق المجتمع لترى الناس كما هم، وليس كما نتصورهم. وليس بخاف، معضلة القدرات المالية للحزب للوفاء بمتطلبات عمله الجماهيري، ومعركته الانتخابية، وغيرها من المهام، وعليه ابتكار أساليب غير تقليدية لمعالجة ذلك. وفى ضوء حداثة النشأة بعد ثورة 25 يناير، ليس بمقدور الحزب وحده تحقيق كل الطموحات، ولكونه يتبنى الشعارات الرئيسة للثورة: عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية، عليه ضرورة التنسيق والعمل المشترك مع قوى الثورة الأخرى ، وبخاصة " التيار الشعبى المصرى "، والاستفادة من " ظاهرة " حمدين صباحى فى انتخابات الرئاسة الماضية، وخبرات حملته الانتخابية . بل يمكن أن يمتد التنسيق إلى الدفع لأفضل العناصر وأكثرها شعبية، والتكتل خلفها، بصرف النظر عن هويتها الحزبية، لأن الانتصار سيكون حتما ً لمصلحة الثورة وتحقيق شعاراتها. وفى التحليل الأخير، لا يتوجب أن يذهب بنا الشطط والخيال التحليلى بعيداً عن أرض الواقع: فقوى تيار الإسلام السياسى معروف كتلتها التصويتية، وتلك محدودة نسبيا بالقياس مع إجمالى من لهم حق التصويت، ويشاركون بالفعل، وهى تتميز بسمة الالتزام الحزبي، والقدرة على التحشيد، وعليه يتوجب التحرك صوب زيادة رقعة المشاركة السياسية من بين القطاعات التى تعزف عن المشاركة، عبر حملات التوعية والتثقيف، والسعى لحشدها لصالح القوى المدنية، وهذا مجال واسع ورحب للعمل الجماهيرى الجاد والواعى. وتبقى حقيقة أن الفترة المتاحة للانتخابات البرلمانية المقبلة ، وفى بيئة مغايرة نسبياً ، ليس الهدف المركزى ، بواقعية، هو الإطاحة بقوى تيار الإسلام السياسى خارج البرلمان، وإنما دفع قوى الثورة الحقيقية، عبر حضور يعتد به، إلى داخل البرلمان، لتشكل معارضة وطنية مؤثرة تحد من إنفراد فصيل بعينه على الحياة البرلمانية، وعلى القرارات ذات الصلة بمستقبل البلاد ، مما يفرض حتمية توحيد الجهود وتركيزها على المنافسة الانتخابية وعبر صناديق الاقتراع، وعدم تشتيت الجهد فى معارك فرعية أو هامشية، لا طائل منها ولا جدوى؟!.