المعنى الأشمل للعلمانية هو فصل الدين عن الحياة والاهتمام بها على حساب الدين، واعتبار الدين واحد من الخيارات التي تتيحها الليبرالية لأفرادها كما تتيح لهم أيضاً الاهتمام بالدين على حساب الحياة إذا رغبوا ذلك، بشرط عدم إرغام الأفراد على رأي معيّن بشأن الدين أو غيره. ويتناول البعض فكرة أن العلمانية فى مفهوم المجتمعات الإسلامية تساوي الكفر والإلحاد، على الرغم من ابتعاد المعنى الأساسي عن ذلك، ولكنهم يعتنقون هذه الفكرة لاختلافها عن أفكارهم بضرورة مزج الدين بالسياسة فى حكم الدولة. إلا أن ذلك يتنافى مع طبيعة مجتمعاتنا التي وإن غاب فيها الدين بعض الشيء، نتيجة العنت الأمني مع المتدينين أو الإفساد المتعمد للمجتمع، ولكنه حافظ على بعض التقاليد التي تمنع فصل الدين عن السياسة بشكل كامل أو جزئي، فالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية ومبادئ العدل الاجتماعي والكرامة الإنسانية التي طالبت بها الجماهير، كلها في مجملها مبادئ اتفقت عليها كافة الأديان السماوية. ويجب أن يعلم الجميع أنه حينما خرجت الجماهير للنداء بدولة ديمقراطية، كانوا ينادون بتطبيق أسمى المعاني الإنسانية التي أوصى بها الله في كتبه السماوية، لم يكن المقصد هنا تأسيس دولة علمانية أو تنحية الدين عن أمورنا، فمن المعروف أن هناك قوانين فى الدول الديمقراطية تهتم بأصحاب الديانات بشتى الصور، بل أن دولاً غربية تضع على أعلامها شعارات دينية، ولذلك كانت الدعوة منذ البداية بتأسيس دولة ديمقراطية تسمو بمعاني الحكم المأخوذة عن الدين، دون تدخل لرجال الدين في إدارتها. لقد عانينا سنين طويلة من حكم الدولة التي تعني فى المقام الأول بحكم الأغلبية دون الاهتمام لحريات الأفراد، فلا هي دولة دينية ولا علمانية، وهو ما يدعى بالديمقراطية اللاليبرالية، ذلك النظام الذي يقتضي معناه فصل الدين عن الدولة بالضرورة، وعلى الرغم من أنه حكم أغلبية إلا أنه في كثير من الأحيان يلجأ إلى تزييف اختيار أغلبية الشعب التي قد تكون دينية أو مدنية. وفي كثير من الدول الشرقية يؤدي هذا النظام إلى قمع المعارضين من كافة التيارات الأخرى. وبعد الثورات العربية كان الأمل كبيراً في إحداث تغيير شامل ومفاجئ لمناحي الحياة المختلفة اجتماعياً وسياسياً. ولكننا كالعادة حينما نعتنق مبدأ معين نحارب الآخر بجلب السيء فيه وليس جلب السيء والجيد، فحينما كانت دعوتنا لدولة ديمقراطية ليبرالية، كانت آمال التيارات الأخرى فى دولة دينية صرفة، ولذلك بدأت تظهر مفاهيم العلمانية المغلوطة، والادعاء عليهم بالكفر والإلحاد، على الرغم من عدم تعرض أى من المؤيدين للحكم الديمقراطي لمسألة مسخ الهوية الإسلامية عن مصر، إلا من بعض الذين يمكننا تجاهل دعاواهم لتجنب انهيار المجتمع. فمن المعروف أن تبعات ذلك خطيرة ومن الصعب تدارك آثارها السيئة. ولو فكرنا فيها بشكل أوضح، فدساتير كل دول العالم تحتوي على نمط ديني يرعى الأقليات والطوائف الدينية الأخرى، إلا أن البعض يرددون في بعض الأحيان أقاويل ومفاهيم مغلوطة بدون دراسة أو معرفة. على أية حال، رأى أستاذنا الدكتور "عبد الوهاب المسيري" رحمة الله تعالى عليه أن هناك نوع من العلمانية الإسلامية التي تختلف في مجملها عن علمانية الغرب, فالعلمانية المطلقة تدعو لعزل واستبعاد الدين عن كافة جوانب الحياة، وأن تكون المرجعية الوحيدة للفرد عقله ومصلحته التى تتغير طبقاً لما يسود فكر مجتمع ما فى مرحلة من حياته، فعلى سبيل المثال كان استقلال الفتاة عن أسرتها قبل الحرب العالمية الثانية مرفوضاً اجتماعياً، إلا أن ذلك تم قبوله بعد الحرب لأسباب كثيرة. وعلى الرغم من ذلك، فلا يجب أن ندعو إلى القضاء على التقاليد الموروثة في مجتمعاتنا الشرقية، فتمسكنا بضرورة أن يدعو الجانب الأخلاقى والتشريعى والاقتصادى للدين أي مجتمع إلى التقدم والنمو والتطور هو أمر حتمي لا مفر منه، كأي مجتمع إنسانى يحترم قيم الإنسانية. ومن هنا يكمن الاتفاق بين الفكر الإسلامي والفكر العلمانى فى رفض تدخل علماء الدين عموماً فى السياسة، أو استخدامهم للدين فى تحليل وتحريم أو دعم فئات أو أشخاص فى المجتمع، فالدين أسمى من أن يستخدم كأداة في لعبة السياسة، الدين مبادئ وقيم سامية عليا، الدين فكر وتشريع. وتذكروا أن العلماني والإسلامي كانوا يداً بيد في الميدان يصلون سوياً ويتضرعون إلى الله أن يمدهم بنصر على عدو مشترك، فلا تسمعوا ولا تسمحوا لأحد بتغييب عقولكم وحشوها بترهات ومزاعم بعيدة عن الصحة، واعملوا بما أوصانا به الله تعالى حينما قال (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) - الأنعام الآية 50. Comment *