ولقد كنت قد أنهيت مقالي بتساؤل يملأه الشجن عما أصاب "النحن"في أيامنا هذه؟ فلقد لاحظت أن مفهوم "النحن" قد صار يعاني أزمة حقيقية نتيجة عوامل "النحر"التي تدخلت بفعل فاعل مع سبق الإصرار والترصد في إعادة تشكيله، ولكن علي نحو مفتت وبفعل آليات التفكيك البنائي التي كان علي من يحبون هذا الوطن أن يتتبعوها بوعي لايغيب. فمن يأخذ عينة عشوائية من حوارات الناس في النوادي والمطاعم والمواصلات العامة والمستشفيات وقاعات المؤتمرات والندوات...الخ، سوف يلاحظ حالة من عدم الاتفاق علي أبسط المباديء الانسانية وأكثر القيم شيوعاً، الأمر الذي يخلق حالة من أكثرالتشظي والارتباك في ممارسة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد،وهي حالة تتناقض تماماً مع ما اعتاده المجتمع المصري في حواراته العامة والخاصة، وذلك عندما كانت حوارات الناس تعلي قيم الجماعية التي تدفع قيم الفردية والأنانية الي التراجع والتواري،وكان الحرص علي إعلان التطابق والاتفاق مع المعاني الجمعية المشتركة كالعيب والحرام وأصول التربية....الخ وبالطبع لم يكف الناس في بلادي عن استخدام كلمة "نحن"ولكن شتان ما بين استخدامهم لها في البارحة واستخدامهم لها اليوم،فبالأمس كانت النحن تعلي من شأن الهوية الوطنية التي تجمع ولاتفرق في تفاعل مع حالة من انكار الذات الفردية،أما الآن فقد صار استخدام الناس "للنحن" مقتصراً علي فئة بعينها مع استبعاد وإلغاء الفئات الأخري، والتي كان من المفترض أن تتكامل وتندمج معها ؛فصار رجال الدولة والمسئولون يستخدمون في خطابهم "نحن"حكومية متعالية ومتغطرسة تتأفف من "الرعية" التي لا ترتقي في نظرهم الي مستوي المواطن وهم يعدون ما يمارسونه من عمل إداري –علي مستواه المتردي- من قبيل "المن" وليس الواجب وعندما يظهرون علي الشاشات لايستطيعون اخفاء حالة الاستعلاء التي تكشفها لغتهم الجسدية عندما ترتسم التكشيرة القرفانة و"تخنف "كلماتهم المتآكلة عندما يضطرهم بعض الإعلاميون المخلصين إلي الرد علي شكاوي المواطنين،الذين تنتابهم الحيرة فتنكمش "نحن" المحكومين وتتضاءل لتقبل القوانين الجائرة والإدارة الفاشلة. ناهيك عن "النحن"الأيديولوجية التي تصنف أصحابها حسب هويتهم الدينية والتي تمارس بقصد شرير نفي المصري عن انتمائه ل"نحنه" المصرية الكبري لتسجنه في"نحنه" المسيحية الضيقة أونحنه" الاسلامية الوهابية السلفية فيعاني الاغتراب والوحشة دون أن يدرك أن انتماءه الديني لن يغنيه عن انتمائه الوطني. وفي سلسلة التفتيت تعلو نبرة نحن ذكورية رجالية تبرز الهوية الجنوسية والبيولوجية وتعليها علي الهوية الإنسانية التي تضم الجنسين معاً، وهي نحن تبريرية زائفة تؤلب رجال المجتمع علي نسائه بدعوي أن نساء مصر قد أخذن أكثر مما ينبغي من حقوق، دون أي تمعن في أن معظم ما طالبت به النساء من تطبيق قوانين العدالة الإنسانية قد قدم لهن في صورة واجبات مضافة لأعبائهن التقليدية وكأن المجتمع يثأر من نسائه بالمحاكمة اليومية التي تقام لهن في شكل المعايرة بأنهن قد فشلن في الجمع بين البيت والعمل رغم أن المجتمع ذاته لايكلف الرجال إلا بالعمل خارج المنزل. ناهيك عن "النحن" الاغترابية التي تحفل بها لغة الصفوة الرسمية وغيرالرسمية والتي سقطت في القطيعة التاريخية مع الذاكرة الجمعية، فصارت تتصرف من منطلق "انتقائي"تجزيئي" عندما تحاول الربط المشوه بين الماضي والحاضر،فينتهي مسعاها الخائب بكارثة تفكيك الضمير الجمعي، الذي أبدعت في صياغته الروح الجمعية المصرية، وبذلت في سبيل صيانته كل غال وغال.فلم يخلو حديث من أحاديث معظم من يتحدثون عن تاريخ عظماء مصر ورجالها- الذين يندر أن يمن علينا بمثلهم – دون أن يقول أحدهم مدعياً الموضوعية الزائفة أن "عبد الناصر كانت له مزايا وعيوب.."وهي عبارة مضللة يمكن أن تستخدم في وصف بعض الأدوية أوفي وصف العاديين من الناس ولايدرك حضرته أنه قد أسقط من فمه سماً وليس كلاماً، وأنه لم يضرب صورة الزعيم وإنما هو قد ضرب الذاكرة الجمعية المصرية في مقتل، لأن الجيل الجديد من المشاهدين الذي يتعرف علي التاريخ من خلال الإعلام سيرتبك وعيه السياسي والتاريخي عندما تختلط في نظره أعمال السفهاء والخونة بالعظماء الذين استطاعوا أن يجعلوا النحن المصرية المشعة تمد جناحيها لدول القارة السوداء فتهرع إليها غانا والكونجو ونيجيريا.. لتتدفأ ب "نحن" أفريقية كبري، وتمتد أجنحة "النحن" المصرية الخلاقة إلي شعوب آسيا المناضلة من أجل الحرية فينضم نهرو وسوكارنو وبندرنايكا...الخ وتصبح "نحن" شعوب عدم الانحياز والحياد الإيجابي وتهتف "النحن" المصرية الرائدة علي لسان فايدة كامل: أنا عملاق قواه كل ثائر في فلسطين وفي أرض الجزائر والملايو وشعوب كالبشائر وبينما يتحدث الزعيم نيلسون مانديللا في مذكراته التاريخية عن أن ناصر قد شكل وعيه السياسي بقوله:"كنت أحاول فقط أن أعلن عن المظالم التي عاناها أهلنا من النظام العنصري لأرفعها في شكل "شكوي" الي المجتمع الدولي،وإذ بي أفاجأ بهذا العملاق الأسمر اللون مثلي يهتف في شمال قارتنا "هذه قناتنا" فانتفضت أهتف وراءه ..وهذه أرضنا وسرت علي درب ناصرفي طريق الحرية. بينما يقوم البعض ممن يتبرعون بتفكيك النحن وتفتيتها بضخ الطاقات السلبية في جنبات الذاكرة الجمعية وهي جريمة" مجانية" قد لا يحصلون علي ثمنها حتي من أعدي أعدائنا. Comment *