يستخدم الناس ضمير الجماعة (نحن) عندما يتحدثون عن أنفسهم بصفتهم فئة إنسانية تشترك فى سمات معينة. فيقولون نحن الرجال أو نحن النساء أو نحن الشباب وكذلك نحن العمال أو.. إلخ. ولا يستخدم الناس كلمة (نحن) إلا عند درجة من اكتمال الوعى الجمعى بالصفات والمصالح والأخطار المشتركة بين من يشير إليهم ضمير الجماعة. ولقد طور المصريون مفهومهم (للنحن) باكتمال نضج شعورهم الوطنى بأنهم ليسوا مجرد تجمع فيزيائى يعيش حول النهر، وإنما هم مجتمع سياسى ناضج، دفع ثمن نضجه ورقيه غاليا من الحروب بين الأقاليم المتصارعة على السلطة وعلى مياه النهر، الذى لولا انضباط نظام الرى لتحول إلى شلال جارف. إلى أن من الله عليهم بموحد القطرين مينا، الذى مثل أعلى درجات الوعى البنائى بأهمية أن يصير الكل فى واحد، قادر بتوحد جهود أبنائه على ضبط النهر، الذى استعصى خضوعه على شعوب تسع دول يخترقها النيل منذ فجر الكون، ولكنه رضى بسيطرة المصريين الذين ضبطوه فى نظام لم يسبق له مثيل. فصار النيل هبة المصريين، الذين استخدموا لحظتها ضمير الجماعة لأول مرة (نحن).. والتى تعنى عند جمال حمدان (مجتمع تعاونى منظم لا يعرف الفردية فى صورتها الضارية، ويدرك حتمية العمل الجماعى المنظم المتسق، وأن مصلحته ووجوده رهن بالتضامن الاجتماعى بالنظرة المتفتحة، بلا أنانيات محلية أو نعرات ضيقة أو نزعة عدوانية).. أو كما يقول رفاعة الطهطاوى (كانت مصر مهيأة لكسب السعادة أكثر من غيرها بشرط انتظام حكومتها واجتهاد أهاليها، لأن اختلال حكومتها يخل بمزارعها، وذلك بخلاف غيرها من الحكومات.. فإذا كانت الحكومة المتولية على مصر سيئة التدبير، فإنها تجحف بالمصلحة العمومية!!) ولقد لاحظنا على من يناقشون دور الدولة أن الكثيرين منهم لا يدركون كيف نجحت الدولة المصرية القديمة فى إتمام العلاقة بين المجتمع وإطاره الجغرافى، أو ما يسمى بسياسة تأهيل الإقليم، فحققت بذلك غاية البقاء والاستمرار التى تهدف إليها كل الجماعات الإنسانية، وإن كان هذا تحقيق هذا الهدف ليس سهلا، ما لم تتوفر للمجتمع فرص البقاء والاستمرار. وإلا فأين ذهب التتار وغيرهم من الدول التى كانت ذات (شنة ورنة)، ولكنها زالت بالتصفية والتطهير العرقى والتشرذم والشتات. ولذا فليس من قبيل المصادفة، أن تبقى مصر وتستمر ويزول من غزوها واعتدوا عليها كم بغت دولة على وجارت ثم زالت وتلك عقبى التعدى وهكذا حمى نضج المصريين فى إدراك عناصر قوتهم الوعى الجمعى المبكر بقوة (النحن) التى صاغوها بطريقتهم، ليس فقط لكسب السعادة وإحكام السيطرة على النهر، وإنما لمواجهة الخطر الذى عاشته على مدى تاريخها، والذى كان ظاهرة صحية شحذت الوعى القومى منذ وقت مبكر، وأرهفت الحساسية واليقظة الوطنية، واستبعدت احتمالات الانغلاق على الذات واللامبالاة بالعالم الخارجى، وبخاصة أن الخطر لم يكن من الخارج فقط.. وإنما من الداخل الذى كان أصعب وأشد وبالا، وذلك عندما كانت المركزية السياسية تتعرض للتفكك فى فترات الاضمحلال وتعجز السلطة عن أداء دورها فى الاستجابة بقوة لاحتياجات البنية الاجتماعية. وقد اكتشف المصريون أن الوثوق بالدولة كآلية للحفاظ على التماسك البنائى ودعم استقرار المجتمع ينبغى أن يكون محدودا بالتوجه الوطنى والكفاءة فى إدارة النهر والقدرة على الدفاع عن استقلال الوطن من جانب أولى الأمر. ولا شك أن عمق ووضوح مفهوم (النحن) قد أنار السبيل للجماعة المصرية كى تتعرف على نقاط قوتها، فتحرص على دعمها وصقلها بما يضمن للجماعة الصمود والاستقرار. كما أن القلق الكامن فى حاضر المصريين على الاستقرار الضرورى للإبداع الحضارى، والخطر الذى قد يتهدد مستقبلهم جعلهم يقبضون على مفتاح «العروة الوثقى»، وهو ثقافتهم، بما تتضمنه من عناصر صلبة صارت مع الزمن حصنا منيعا ضد التفكيك والاختراق. وبعين (النحن) الحصيفة رأى المصريون (الآخر) الذى تعددت أغراضه وتنوعت نواياه بدءا من الخصم الغازى والعدو الكاره، وانتهاء باللاجئ الملتمس للحماية والأمان.. فكان المثل الشعبى القائل: «من حبنا حبيناه.. وصار متاعنا متاعه، ومن كرهنا كرهناه ويحرم علينا اجتماعه» وهكذا اتخذ المصريون موقفهم الحضارى من (الآخر) منذ فجر التاريخ، وهو موقف يسبق فى النبل والرقى كل ادعاءات المحدثين حول قضايا التسامح وقبول الآخر، فكان التسامح واستيعاب الآخر يسود مصر فى فترات تاريخية حفلت بقيم الغزو وهيمنة منطق القوة وشريعة الغاب. وحتى فى حالة الوقوع فى براثن الاحتلال العسكرى لبعض الأقوياء كانت (النحن) القوية تقف صامدة فى وجه الغاصب، فتحيل انتصاره العسكرى إلى «هزيمة ثقافية»، حيث يسجل التاريخ كيف أذابت الثقافة المصرية فى «أحماضها» القوية من احتلوها، فتحدثوا لغة المصريين ولبسوا ثيابهم. أما الآخر اللائذ بحماها، فقد حظى فى ظلها بما تمناه وأكثر،حيث يؤكد ألان.ب.لويد أن الأجانب قد شكلوا نسبة ملحوظة من السكان فى مصر فى المرحلة المتأخرة من العصر الفرعونى، فكان منهم التجار والجنود المرتزقة والرحالة والدارسون، كما أكد هيرودوت أن مصر قد احتوت كل شىء غطته مياه الفيضان، وإن كل من عاش شمال (الفنتين) وشرب من ماء النيل فهو مصرى، أما من لا يتكلم اللغة المصرية فليس بمصرى. إذن كان الأجنبى يمكن أن يصبح مصريا إذا قبل مصر وطنا له، وتبنى حضارتها بكل عناصرها، واستطاع تمثلها فاتخذ اسما مصريا واندمج فى تفاصيل الحياة المصرية، وكانت «النحن» قد صارت مفهوما يتسم بقدر كبير من المرونة والقدرة الهائلة على الاستيعاب، فكانت تقبل التعددية كسمة بنائية فرضتها الراقات التاريخية المتعاقبة. لكن مفهوم (النحن) قد استطاع أن يتفادى الانقسام والانفصام، وذلك لأن مناطق «الصلابة» فى هذا المفهوم قد قامت بحماية مناطق «السيولة»، كما قامت مناطق السيولة بتليين مناطق الصلابة لتستطيع استيعاب التغير والتعدد، فيما يمكن أن نسميه بجدلية السيولة/الصلابة.. فما الذى أصاب «النحن» فى أيامنا؟