من الذي لاتسيل دموعه وهو يرقب الجحافل البيضاء وهي تتدافعمرددة:لبيك اللهم لبيك.. لبيك لاشريك لك لبيك..تصحبهم من خلفنافذتها شجية الصوت ليلي مراد والشجن يغلف نبرات صوتها:يارايحين للنبي الغالي هنيالكم وعقبالي ...!!نعم لقد حولت المحروسة الحج من مجرد رحلة دينية للأراضيالمقدسة أياماً معدودة يكمل بها المسلم الفرائض الي حالة روحية وفنيةوعملية تنتاب مصر كلها طول العام ،فصناع النسيج الثمين من الحريروالقطيفة والمطرزون يزخرفون النسيج بخيوط الذهب والفضة لكيتليق بكسوة الكعبة الشريفة والتي يتوجب أن ينتهي العمل بها قبل موعدالحج بثلاثة شهور ويتهيأ (المحمل)للرحيل الي مكة مصحوباً بقوافل المؤن والأغذية والثياب التيكانت توزع علي فقراء المسلمين بأراضي الحجازالتي لم تكن قدسميت بالسعودية آنذاك، ويتجمع الحجاج المصريون الذين تأهبواللرحلة عند باب الفتوح بقلب القاهرة القديمة، ولايقتصر الجمع عليحجاج مصر وإنما تنضم إليهم لتحتمي بهم وتتدفأ أفواج الحجاجالقادمين من شمال أفريقيا كالمغرب وتونس وليبيا والجزائروغيرها،فتتقدم فرق الجيش المصري الموكب المهيب وفي المقدمة يتهاديهودج المحمل الذي يتشرف بحمل الكسوة المشرفة وتتجمع الجماهيرالغفيرة لوداع الموعودين بزيارة الحبيب والجمع يجهر بالدعاء وعليرأس المودعين يقف الحاكم أو الملك ليحييهم ويتأكد من تمام اجراءاتالسلامة بعد أن انتهت الاجراءات اللوجستية"بإنشاء "التكايا"علي طولالطريق داخل حدود البلاد وعلي طول الطريقداخل الأراضي الحجازية،والتكية لمن لايعرف هي استراحات وفنادقينزل بها المسافرون حتي يصلوا الي مكة سالمين تحيطبهم فرق الجيش لتحميهم من عدوان القبائل التي تعيش علي سلبالقوافل المسافرة آنذاك.نعم مارست المحروسة دورها الذي لم يكلفها أحد بأدائه ومسئوليتهاباعتبارها منارة الإسلام وقبلة أنظار المسلمين،فأخذت علي عاتقهاحماية ورعاية الأراضي المقدسة التي لم يكن لها من يحميها،فلم تكنأراضي الحجاز قد حملت اسم السعودية بعد، ولم يكن البترول قد طفرمن آبارها، فكان الفقر وقسوة الصحراء والبداوة سمة الحياة آنذاك.وكان موسم الحج هو الانفراجة التي تهون علي الناس جفاف أيامهم.أجل كانت رحلة الحج صعبة قاسية حملت المحروسة هم تخفيفصعوبتها وترطيب قسوتها وتضمن الأمان لكل من يأتي علي كلضامر من كل فج عميق، وكان الفلكلورالمصري يعج بأغاني وداعالحجاج واستقبالهم وفرحتهم بلمس الحجر الأسود والصلاة بين يديرسول الله عليه الصلاة والسلام أذكر تلك الأغنية التي ترددها نساءالجيرانقائلات:رايحة فين ياحاجة يام الشال قطيفة...فترد منشدةرايحة أزور النبي محمد والكعبة الشريفة.والآن فيا سيدي يارسول الله عليك أفضل صلاة وسلام اسمح لي أنأطلب حكمك فيما شجر بيننا! بعد أن تغيرت الأحوال وذهبت أيامالمحمل ورحلة البعيروجاءت أيام صارت فيها الطائرة تحمل الحجاجالي أعتابك في ساعات،وبعد أن كان الناس يحلمون بزيارة واحدة فيالعمرصاروا يستسهلون الرحلة فيكررونها مرات ومرات وصارالإزدحام بالملايين، ورغم نبل الهدف من الرحلة بغسل الذنوب وطلبالمغفرة واكتمال الفرائض،إلا أن الأمر صار بصورته الراهنة يمثلمشكلة حقيقية للاقتصاد القومي للمحروسة التي صارت تضخ سنوياًعشرة مليارات من الدولارات بعد أن صارحجاج مصر يمثلون الرافدالأكبر لدخل المملكة السعودية من الموسم،ولم يقتصر الأمر عليالقادرين وإنما صار فقراؤنا قبل الأغنياء يقترون علي أنفسهم وذويهمفي الطعام والدواء ليوفروا ثمن الرحلة علي سطح عبارة أوبالأوتوبيسات المجهدة تحركهم الدوافع الدينية البريئة والفضائيات التيتهدف الي تجريف أموال المصريين لتنعش اقتصادمن يقرضوننا من أموالنا أقل القليل وهم يصعرون الخد.مصرتستغيث بك ياحبيب الله،وهي تعج بالفقراء والمرضي وتعجزمستشفياتها عن استقبال مرضاها ويعجزالدواء عن تغطية احتياجاتضحايا الفشل الكلوي والسرطان، ويلقي زهرة فتيانها بأنفسهم اليالبحر في مغامرات يائسة طلباً للقمة الخبز ليصير شبابهم غذاء لأسماكالقرش.ألايظهر من بيننا شجاع مثل الصحابي الجليل الذي ذهب في صحبتكالطاهرة الي الحجة الوحيدة التي قمت بها الي مكة فشاهدعند تخوم مكة تلك الأرملة الفقيرة التي كانت تغلي الماء لتشغل أطفالهاالجائعين بأوهام طبخ الطعام فمنحها كل ما لديه من مالكان سينفقه في الحج،وقفل راجعاً دون أن يكمل رحلته.ألاينبغي لنا أن نقتدي بهذا الرجل الذي أجبت أصحابك -وهم يفتقدونهبينهم بعد أن تركهم يكملون الحج الذي تنازل عنه-أما رأيتموه يطوفبينكم.؟!أشهدك يارسول الله أني بقدر ما أتمني زيارتك لأغسل الروح بالبكاءبين يديك ،فانني سأستعين بالله علي جهاد أكبرانتويت القيام بهبالابحارعكس التيار الجارف المتجه الي أم القري لأن مسئوليتيتجاه المحروسة وهمومها لاتمنحني الفرصة لتحقيق حلمي الذاتيبالارتماء علي أعتابك.لكن قلبي سيطوف حول الكعبة وروحي ستظلتهفو للقاءك، أما الآن فلاسبيل أمامي إلا أن أشد الرحالالي ...المحروسة. Comment *