تتجاور المصطلحات وتختلف تعريفاتها فبين الجماعة والأمة علاقات متقاربة لكنها تعريفات لأمور متداخلة في ذاتها؛ إذ إن الجماعة في أضيق تعريفاتها (من الناحية السوسيولوجية) هي مجموعة من الناس تربطهم علاقات دموية، دينية، أو لغوية، بينما الأمة في أبسط تعريفاتها هي: جماعة من الناس يرتبط أفرادها بروابط معينة مثل اللغة أو التاريخ أو الجنس من ناحية ، والمصالح المشتركة والغايات الواحدة من ناحية أخرى، وعند الربط بين هذين المفهومين بمفهوم المجتمع وتطوره وبنائه على أساس تفرد الفرد بشكل أكبر وبنية مؤسسات وتكوين علاقات أقوي، والتأسيس لمايسمي بالهوية، يتضح أنه كلماكان المجتمع قويا عكس هذا قوة الدولة، على أنه لابد من التفرقة هنا بين الدولة ومؤسساتها وبين النظام. لقد مر المجتمع والدولة معا بكثير من التغيرات التاريخية والعلاقات الداخلية التي انعكست على تكوينهما وممارسة دورهما الطبيعي، وفي محاولة لتفكيك المجتمعات وإزالتها وإعادة تركيبها لعبت السياسة دورا أساسيا في تلك المسألة، ومع أن المجتماعات الشرقية ذات خصوصية معرفية وثقافية من ناحية النشأة والتكوين والظروف التاريخية تختلف عن المجتمعات الغربية، ومع كون الدين في أساسه ظاهرة شرقية ومكونا من مكونات المجتمعات الشرقية فقد لعب دورا كبيرا في تكوين تلك المجتمعات، ومع التوسع الاستعماري الغربي منذ القرن السادس عشر وفي سبيل تدخل الغرب في المجتمعات العربية سعي إلى خلخة نظام البني الاجتماعية لتلك المجتمعات من خلال إثارة مشكلة الأقليات الدينية والتي ستتحول فيما بعد في القرن التاسع عشر إلى مشكلة كبري عالمية " المسألة الشرقية"، فمن أجل الحصول على موطأ قدم في المنطقة العربية عملت القوي الكبري الأوروبية (فرنسا، روسيا، إنجلترا، ألمانيا) كل ماتستطيع لفرض حمايتها على الأقليات الدينية في الدولة العثمانية، وتواكب هذا مع حركة استشراقية حاولت الرجوع في أصل التكوين لتلك المجتمعات_خاصة المجتمعات السامية_ إلى أصول إثنية وعرقية ودينية، محاولة الارتداد بها إلي طبيعتها وإطلاق أحكام عامة من أن الفرد السامي لا يستطيع أن يتخطي المسافة التي تفصله عن أصوله وهي الأصول التي تتحكم في تنظيم حياته (الزماني/المكاني) ومن ثم هو متمحور حول ذاته ورؤيته لنفسه. ومع تفكك الإمبراطورية العثمانية تصدرت المشكلات الداخلية إلى الدول المنفصلة عنها، وعلي رأسها مشكلة الأقليات، ولقد تحولت تلك الأقليات إلى أقليات برجوازية بسبب عامل العلمنة والتحديث التي مارسها الإنسان الغربي في إطار الحضارة الغربية، وفي إطار عدائه التاريخي للدين كرد فعل على تجربة العصور الوسطي، وتم إحلال المادة محل الدين فأصبحت هي الجوهر والمرجعية للإنسان الغربي واستبدلت بتلك العلاقات علاقات القوة المادية، ونتج عن ذلك أن الصراع هو أساس العلاقات بين الدول وبين الدولة والفرد وبين الإنسان وأخيه الإنسان، أي أن ماساد هو رؤية ميكافيللي وهوبز للإنسان (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان) والتي طورها داروين واستفاد منها ماركس، وهي الرؤية التي سيطرت على العلاقات الدولية والإنسانية وعلى اقتصاديات السوق سواء على المستوي المحلي أو المستوي العالمي، ومع نشوء فكرة القومية والدولة المركزية وسيطرت الفرد وتغول الأنظمة الاستبدادية، بدأت المشكلة الطائفية تطفو على السطح بصورة أكبر، فانسحاب الدولة من المجال العام وإحكام القبضة الأمنية، وعدم تلبية الحاجات الأساسية للفرد أدي إلى لجوء الأفراد للدين واحتمائهم به، فاحتمي المسيحي بالكنيسة واحتمي المسلم بالمسجد، مما ساهم في تكوين جماعة انعزالية مغلقة تشعر بكونها أقلية مضطهدة ومنتقصة حقوقها، وتهيئة المناخ لنشوء فكر متشدد يقوم على الكراهية والإقصاء والنزوع إلى الانفصال والخوف من الاندماج والانصهار في المجتمع خوفا على الجماعة ووحدتها، ومن هنا أصبحت عملية الولاءات الدينية هي الأساس الذي يحكم العلاقة داخل المجتمع المصري، وتواكب هذا مع وجود كاريزما قوية للبابا شنودة الثالث الذي صبغ الكنيسة ومؤسساتها بطريقة تفكيره وأصبحت الكنيسة في عهده دولة داخل دولة لها قوانينها الخاصة التي لا تخضع لقانون الدولة، وقد لوحظ ذلك في رفض الكنيسة لقرارات القضاء، وبروز مشكلة بناء دور العبادة، إلى جانب مشاكل الزواج بين مسلمين ومسيحيين، وترك الديانة إلى الديانة الأخري؛ وفي المقابل لذلك قام الخطاب الديني السلفي _برعاية أمنية_ بالتصدي لتلك الأمور وتصدير مقولات تذهب إلى التكفير والجزية وإقامة الحد وغيره من المقولات التي لا تستند إلى أسس شرعية أصيلة، مما ولد حالة من الخوف لدي الأقباط، وقد استغل النظام القمعي لمبارك تلك الحالة وروج نفسه على أنه الحامي لتلك الأقلية مستخدما إياها في إطالة عمره واستمراره وتوظيفها لصالحه لاعبا على وتر الأمن والاستقرار لتلك الفئة، وقد خلق هذا الأمر مراكز قوي أهلية داخل الإدارة السياسية تعمل لمصالحها الخاصة ( السلطة التنفيذية تتدخل في اختيار البابا وعزله كما فعل السادات). يتزامن هذا الاستقطاب الطائفي وبروزه إلى السطح مرة أخري بصورة قوية في جولة الإعادة الحالية للانتخابات الرئاسية، ، فمع صعود التيار الإسلامي وسيطرته على السلطة التشريعية (قبل حلها) وتصاعد الخطاب السلفي الرجعي وتوظيف الثورة المضادة لذلك من خلال أجهزة الإعلام والمخابرات، واللعب على وتر الأمن والحماية للأقلية الدينية من خلال عودة نظام مبارك متمثلا في أحمد شفيق اتجه الصوت القبطي إليه مرة أخري كضمان للحماية والأمن، ومع إصدار فتوي من قبل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الدكتور القرضاوي بأن التقاعس عن المشاركة في التصويت (المقاطعة) أو التصويت لأحمد شفيق حرام شرعا، اتخذ الموقف طابعا طائفيا، وفي نفس السياق يظهر جليا الدور الذي تلعبه المخابرات الأمريكيةوالغربية بالتعاون مع أقباط المهجر في التخويف والحشد من الإسلاميين وتصوير الأمر على أن هناك اضطهادا وتنكيلا سيحدث للأقباط حال وصول الإسلاميين للحكم، وقد تمثل ذلك في دعوة منظمة التضامن القبطى لحضور المؤتمر الدولى حول وضع الأقباط تحت حكم الإسلاميين وذلك يومى 28 و29 يونيه 2012، يتحدث فى المؤتمر العديد من أعضاء الكونجرس، ولودر ديفيد التون من مجلس اللوردات البريطانى، والنائب بشير الجميل من البرلمان اللبنانى، والسفير جون بولتون، سفير أمريكا السابق فى الأممالمتحدة، والسفير زلماى خليل زادة سفير أمريكا الأسبق فى الأممالمتحدة ، والبروفيسور فؤاد عجمى، ومستشار أوباما للشئون الإسلامية زهدى جاسر، وأعضاء من لجنة الحريات الدينية المستقلة، ولجنة الحريات بالخارجية الأمريكية، وسفراء بعض الدول، والعديد من السياسيين والأكادميين ونشطاء حقوق الإنسان من المنظمات الأمريكية، ويشارك فى المؤتمر باحثين من معهد هادسون، ومعهد واشنطن، ومؤسسة الاطلنطى ،ومركز دراسات الأمن ، ومعهد ميمرى، كذلك يتحدث فى المؤتمر رؤساء المنظمات المسيحية: منظمة التضامن المسيحى الدولى، ومنظمة الابواب المفتوحة، ومنظمة صوت الشهداء، ومنظمة الاهتمام المسيحى الدولى، ومنظمة جوبلى كمبين. ولا يخفي على أحد في تلك الدعوة الرعاية الصهيونية من خلال معهد واشنطن وهو معهد IPAC الصهيوني، ووجود أشخاص لهم علاقة بالواقع الانفصالي والتحريض والتأسيس له مثل جون بولتن، وزلماي خليل زادة وتجربته في العراق، وبشير الجميل وتجربته في لبنان، وغيرهم الكثير مما اشتغل على عملية تقسيم السودان. إن استخدام الولاءات الدينية يقوض من آليات الاختيار الداخلية، وفرص الاندماج والانصهار في تكوين مجتمع قوي لخلق دولة قوية، كما أنه يخلق مراكز قوي أهلية داخل الإدارة السياسية تعمل على خدمة المصالح الخاصة، وتنسحب الفكرة ذاتها هنا إلى الدستور (فما حدث فيه من نسبة 50% للتيارين عكس أيضا الدور الطائفي في عمل اللجنة التأسيسية) فالدستور بكونه عقدا اجتماعيا بين أفراد المجتمع الواحد وتكوين الحريات الفردية كعامل مؤسس فيه وكل ما يضعف هذا العقد أو يقوض أركانه وبناءه يلغي في الأساس المنافسة الحرة على المناصب المسؤولة، ويقود إلى تقويض أسس الدولة الحديثة والقضاء على الحريات الفردية المرتبطة به وعلى الفرد المواطن نفسه، واستمرار أصحاب المصالح والنفوذ في التحكم في الدولة ومواقع الحكم وإضعاف المجتمع، ويعمق من سلطة المؤسسة الدينية على حساب سلطة الدولة ويجعل الأمر دوما على حافة الصراع والانهيار. إن الخطر الحقيقي يتهدد المصريين جميعا باختلاف مكوناتهم، ولن يفرق بين دين أو عرق، بل الجميع في نظره سواء، فلابد من بلورة مشروع وطني خارج إطار الدين يقوم على القواسم المشتركة للمصريين جميعا باعتبارهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات. Comment *