لا أراهن كثيرا على ما سوف تأتى به اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، مهما كان لديها من طعون جدية وأدلة تزوير واضحة، ذلك أن العسكر لن يتنازلوا عن وجود أحمد شفيق طرفا في جولة الإعادة، وعندي من المؤشرات والشواهد الكثير، لكن يبقى هذا حديث أخر، ربما نعود إليه قريبا. ولئن كان الأمر كذلك، وظني أنه كذلك بالفعل، فإن أربعين مليون ناخب (مع استثناء عشرة مليون أعطوا أصواتهم لطرفي الإعادة) سيجدون أنفسهم بين مطرقة الإخوان وسندان النظام الذي لم يسقط، أي سيجدون أنفسهم (مضطرين) لاختيار أحد وجهي العملة الواحدة. ثمة أسئلة كثيرة لا مفر من مواجهتها بشجاعة وصدق: لماذا يجب أن نحشر أنفسنا في المأزق الذي دفعنا إليه تحالف أعداء الثورة (المجلس العسكري) وسارقي الثورة (الإخوان)؟ ولماذا يتدافع البعض منا إلى هذا الفريق أو ذاك من أجل «التنسيق» لجولة الإعادة؟ هل يمكن أن نأتمن من تاجروا بدماء الشهداء، و«طنشوا» على تعرية وسحل بنات مصر في الشوارع، ووصفوا الثوار بأنهم بلطجية ومأجورون، واتهموهم بالوقيعة بين الجيش والشعب..الخ.... ثم أخذتهم العزة بالإثم واغتروا بأغلبيتهم البرلمانية وحاولوا سرقة الدستور؟ هل حقا نسينا أين كان الإخوان، والإسلاميون على وجه العموم، في موقعة مسرح البالون وموقعة العباسية الأولى وموقعة ماسبيرو وموقعة محمد محمود وموقعة مجلس الوزراء؟ هل الهروب من النار يكون بإلقاء الذات في الرمضاء؟ وهل «الهروب» أصلا من شيم الثورة والثوار؟ وهل وصلت الثورة إلى مرحلة الدفاع عن نفسها ضد نظام مبارك، فلا تجد أمامها سوى التحالف مع من خانها وباعها؟ وهل الوطن الذي دفعنا دماءنا وعيوننا ثمنا رخيصا لإنقاذه يمكن أن يكون موضوعا للتفاوض ثم التوافق؟ البحث عن توافقات والمطالبة بتنازلات هو تقزيم للثورة وإهانة لدماء شهدائها واستخفاف بعيون أبطالها، الذين خاضوا كل معارك الثورة في مواجهة بقايا نظام مبارك، بينما كان الإخوان يوجهون لهم الطعنات من الخلف. لقد سبق للثورة أن رفضت كل ما قدمه مبارك من «تنازلات» وأصرت على خياراتها المطروحة في ميادين التحرير، ولست أرى ما يبرر الآن السعي ورائها عند من باعوها وطعنوها من الخلف مقابل الاستئثار بكراسي البرلمان، وكأن علينا أن ندفع مرتين ثمن الصفقة المسمومة التي أبرموها مع عساكر مبارك، مرة في معارك الميادين ومرة في انتخابات الرئاسة. لقد ظهرت «المشكلة» بين حلفاء الأمس عندما اكتشف الإسلاميون أنهم لم يحصدوا من صفقتهم مع العسكر سوى الريح، وأن «سلطة» البرلمان هي سلطة وهمية، وأن العسكر ألبسوهم «تاج المدنية»، أي السلطانية، والمؤكد أنه ليس من بين وظائفنا، كشعب وثورة، إنقاذ المخدوع في صفقة كنا نحن هدفها. عار علينا أن نتمثل سلوك جماعة خارجة عن القانون، ونسعى ورائها بحثا عن فتاتها، تماما مثلما كانت، ولم تزل، عبر تاريخها، وقد كانت الثورة شاهد عيّان على الصفقة التي لم تتم مع عمر سليمان «نائب رئيس الجمهورية»، ثم اكتملت ملامحها بعد سقوط مبارك، وكان طرفها الأخر هو مجلس عسكر مبارك، وبرعاية عمر سليمان نفسه. عار أن نفعل الآن نفس ما فعله الإخوان من قبل، وعار أن نقبل بفتات تتفضل به على الثورة جماعة لها تاريخ مشين في البحث عن الفتات، جماعة كانت أخر من التحق بالثورة وأول من تخلى عنها وباعها، عار علينا أن ندفع مع الإخوان، وربما بدلا منهم، ثمن صفقتهم مع العسكر التي كنا نحن أول ضحاياها. يجب أن يكون للثورة خيارها المختلف تماما وجذريا عما يفرضه علينا عساكر مبارك أو يطرحه أمامنا تلاميذ بديع. كانت الثورة بلا رأس، أو هكذا قالوا عنها أو أخذوا عليها، فأفرزت الصناديق رأسا يجب الالتفاف حوله، إذا ليس من المفهوم ولا المنطقي أن نقبل به رئيسا فيما لو قادته الصناديق إلى القصر الجمهوري، ونلتف حوله لو كان أحد طرفي الإعادة، لكننا لا نقبل به قائدا فيما لو أخرجته الصناديق من السباق، بصرف النظر عما جرى بها من تزوير ناعم. وبعبارة أخرى، ألم يكن حمدين صباحي شخصية مقبولة، من كل قوى الثورة، فيما لو جاءت به الصناديق رئيسا من الجولة الأولى؟ وألم يكن موضع قبول والتفاف وتأييد فيما لو كان أحد طرفي جولة الإعادة؟ فلماذا نتخلى عنه ونتسابق للبحث عن توافق مع أخر من التحق بالثورة وأول من تخلى عنها؟ وكذلك يجب أن تكون رسالة كل قوى الثورة، على اختلاف انتماءاتها المذهبية ومدارسها الفكرية، واضحة وقاطعة في رفضها لطرفي جولة الإعادة المعلن عنهما حتى الآن، مرسى وشفيق. رسالة واضحة وقاطعة للطرفين معا، العسكر والإخوان، لا نريد أيا منكما، ولنا خيار أخر. والحاصل أن الثورة، مثلما هي العادة، تجاوزت النخب والطلائع، وراحت تبعث من ميادين مصر برسالتها، لم تفكر الثورة في كيفية مواجهة شفيق وحده، حيث تدرك جيدا أنه من الغباء أن تلجأ إلى الرمضاء هربا من النيران، فانطلقت المظاهرات في ميادين القاهرة والإسكندرية وبور سعيد ودمياط والبحيرة، تندد بالطرفين معا، وتهتف باسم حمدين صباحي رئيسا لجمهورية 25 يناير. وظني أن هذه هي باكورة التحرك من أجل استعادة الثورة زمام المبادرة من الذين حاولوا قتلها والذين حاولوا سرقتها على السواء، ولئن كان هناك حوالي عشرة ملايين قد صوتوا لكل من شفيق ومرسى، فلدينا أكثر من 15 مليون منحوا أصواتهم لمعسكر الثورة، بخلاف الذين امتنعوا عن التصويت (25 مليون) والذين لا يمكن حسابهم لصالح أي من مرشحي الإعادة، لأن كل منهما قد حشد كل قواته، ولم يبق في جعبتهما المزيد. ويما يعنى أن لدينا 15 مليون رسالة، على الأقل، قاطعة في وضوحها، لا نريد أي من اختياراتكم، فللثورة خيار أخر. وعندما تأتى ساعة الاختيار بين من حاول قتل الثورة ومن حاول سرقتها علينا أن نذهب جميعا إلى صناديق الاقتراع لنضع علامة خطأ كبيرة (X)، بطول وعرض ورقة الاقتراع، وليكن الهدف أن يكون عدد الأصوات الباطلة أكبر بما لا يقاس من عدد الأصوات الصحيحة التي سوف يتقاسمها كلا المرشحين، وهى رسالة مشحونة بدلالاتها التي لا تخطئها عين. المقاطعة حل قاصر، لأنها تصب في النهاية في خانة الحاصل على أعلى أصوات المشاركين، ولا عزاء للمقاطعين، إبطال الصوت برفض واضح للطرفين هو الحل الأفضل. وفى السياق يتحمل حمدين صباحي من الآن وإلى ما بعد جولة الإعادة وحتى تنتصر الثورة، مسئولية مضاعفة، فهو ليس مجرد مرشح لم تحالفه الصناديق للوصول إلى جولة الإعادة، بل هو (الآن) رمز للثورة وخادم لها، حمدين صباحي مكانه الآن ميادين مصر وشوارعها، قائدا لثورة لا يمكن أن تموت أن تُسرق. حمدين صباحي الآن هو «البوسطجى» الذي ينقل رسالة الثورة والشعب الواضحة القاطعة إلى كل من يهمه الأمر «لن نقبل بأي من وجهي العملة الواحدة رئيسا لمصر بعد 25 يناير»، حمدين صباحي الآن هو الرمز الذي يؤكد بلا مجاملة ولا مهادنة أن للثورة خيارا أخر مختلف جذريا. وظني أنه قادر على ذلك، ويقيني أن الثورة لن تموت. [email protected] Comment *