عند ذكر كلمة فاشية يتبادر إلى الذهن مباشرة نشأة التيار على عهد موسوليني في إيطاليا عام 1922، والصورة التي كان عليها، إلا أننا حين ننظر إلى المصطلح ونقدم تحليلا سوسيولوجيا له ومقاربة تاريخية نري أنه متعدد الجذور والأبعاد داخل المجتمع الواحد، وقد اتسمت به العديد من أنظمة الحكم القديمة والحديثة دون أن تكتسب المسمي. ولقد كانت الحركة الاستعمارية في أساسها فاشية ذات طابع ديني عسكري وخاضت الحروب الدينية كما هو معروف في التاريخ بالحروب الصليبية واتخذت بعد ذلك في حركتها الكولونيالية من العرق بعدا أكثر وضوحا وعمقا. فالفاشية قد تتكأ إلى أصول عرقية وإثنية ودينية، ترتبط بمهوم الجنس والعرق، وكذلك مفهوم الدولة ويتخذ أشكالا متعددة في التعبير عن نفسه للوصول إلى السلطة وفرض قوته إلا أن آليات عمله هي نفس الآليات على اختلاف المجالات، فالفاشية تتخذ من القوة المنطق الوحيد للاستيلاء على السلطة وتركيزها في يد طبقة متميزة واحدة في الغالب تكون طبقة ات مصالح عليا( ارستقراطية/ برجوازية) ومن ثم فهي تشجع الاقتصاد الخاص ومايتبعه من عمليات احتكار تؤدي إلى هضم وضياع حقوق الطبقة العاملة، وتري في حق تعبيرهم عن تلك المظالم عن طريق الاضرابات أمر مجرم يعاقب عليه، وتري في الهيمنة على مؤسسات الدولة الحل الوحيد لفرض هيمنتها ووجودها وإصباغ هيكل الدولة الإداري بصبغتها من أجل تمرير رؤيتها وفرضها على الجميع، وهنا يمكن التعبير عن فاشية اقتصادية ( رأسمالية القرن العشرين ) تقوم بتبرير الاحتكار وتشييئ الإنسان وصبغ المجتمع بالصبغة المادية وما يتبعه من تآكل المعايير والقيم المجتمعية وتسطيح المفاهيم والقوانين وتفشي المادي على كل ماهو إنساني واحتقار الثقافات ومحاولة إماتتها وتهميشها والانزلاق نحو الاضطهاد العرقي انطلاقا من روح التعالي التي تفرضها على الأفراد في المجتمع الواحد من خلال تبني مفهوم العرق كأحد الأسس التي يبني على أساسها التفريق بين الأفراد والمجتمعات وقد يمتد الأمر إلى الدولة ذاتها فنري الصراعات تشن ضد الدول وبعضها بسبب عرقي وقد كانت حالة الاتحاد السوفيتي ولازالت بعد تفككه أحد أهم الأمثلة على تفجر الصراع والإبادة على أساس عرقي ( تجدر الإشارة هنا إلى ان الاتحاد السوفيتي كما لو كان إمبراطورية بالمعني العسكري والسياسي والأيدولوجي ) فالاستئصال العرقي الذي حدث في البوسنة كان أحد نتائج التفكك، ولم يكن الاتحاد السوفيتي هو الحالة الوحيدة فتفجر الخلافات الدينية والعرقية بين السكان المحليين حتي قبيل رحيل الاستعمار من آسيا، وأبرز مثال على ذلك ماوقع بين الهند وباكستان من مناوشات ومعارك سنة 1947، ولا أريد أن أستطرد هنا في توصيف المجال العرقي كأحد أسس الصراع فقد يكون له مقال آخر. وأسوق هنا قول المفكر الألماني فريتس شتيبات حينما كتب عن التنظيمات السياسية ذات البعد الديني بقوله :" الواقع أن الاعتراف بالديمقراطية يصبح موضع شك عندما يأتي من جانب حركات منظمة تنظيما صارما من حيث تراتب وظائفها وقيادتها"، إن الحديث عن الفاشية الدينية لا يعني الفاشية الإسلامية بل عرفت المسيحية تيارات فاشية، وكذلك اليهودية وتوطين اليهود بعد في فلسطين بعد أكبر عملية تطهير عرقي عرفها التاريخ هي أكبر دليل على فاشية الصهاينة وداعميهم. وانطلاقا من مقولة شتيبات التأسيسية تأتي الفاشية الدينية لتستبدل أسس الصراع بالأسس الدينية، وهنا تتحول القوة المادية إلى قوة معرفية تمارس سلطة على العقل وتقيده وتجعله مسلوب الإرادة ومتوقف عن التفكير، من خلال تأويل الدين لحساب المنظومة الأيدلوجية واحتكار التحدث باسمهأ أي أنها توظف الدين لصالحها من خلال فهمها الذاتي فيتحول الدين إلي أيدلوجيا ينتج عنها فهما ذاتيا يخلق نوعا من التعالي والطوباوية لدي الفرد والجماعة ( خصخصة الإسلام ) والتعالي بمفهوم الإيمان، وينعكس هذا على علاقات الفرد وفهمه للمجتمع وكذلك على قياداته، التي يصبح بينها وبين الدين وكذلك بين منزل الدين نوعا من التماهي فلا يمكن أن يفصل بينهما فاصل، فالصدق والنزاهة والقداسة هي أحد أهم السمات التي يتمتع بها القيادات الدينية، ويري الآخر المخالف له في الرؤية والفهم أقل إدراكا وفهما لمعايير الدين بل والذهاب إلى أبعد من ذلك عند جعل المغاير فكريا خارجا عن الإطار الشرعي للدين، ويتم تصور الأمر وكأنه معركة بين الدين وبين الآخر ولذلك يمكن أن ترفع مقولات مثل: " ماذا رأيتم من الله حتي تكرهوا شريعته:" أو مقولة الإسلام هو الحل، دون فهم لطبيعة الإسلام وطبيعة الشريعة ومقاصدها العليا التي جاءت من أجلها، ويتم ذلك في غفلة عن طبيعة الإنسان وكونه بشرا يخطئ ويصيب وعن المقولات الإسلامية التي تضرب جذورها في توصيف المعرفة وإنتاجها كما في مقولة الإمام مالك: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا المقام. يبقي هنا مفهومان أساسيان ترتكز إليهما الفاشية الدينية والعسكرية وهما مفهوما الدولة والأمة، فبينما تري العسكرية أن الدولة هي العسكر والعسكر هم الدولة من خلال السيطرة عليها يري الدينيون مفهوم الأمة أوسع وأرحب شأنا وهو بناء أكبر من الدولة وبالتالي يجعلون من أنفسهم (التنظيم) بديلا عن الدولة بتكويناتها المختلفة وخلق مشروع قومي _إن جاز التعبير_ يقوم على الدين ليكون البوتقة التي يتم فيها صهر الجميع، فهو مشروع إحلال وتجديد تكون الجماعة فيه بديلا عن الدولة ومؤسساتها من خلال صبغها بنفس الصبغة والمكون الأيدلوجي، لذلك لابد من إعادة تأسيس الدولة على نظام أساسي يجعل الدين هو المنطلق الوحيد طبقا للفهم الذاتي فما حدث مثلا في اختيار اللجنة التأسيسية داخل البرلمان (قبل صدور الحكم القضائي التاريخي بإبطالها ) يمثل ذلك، فمسألة الاستحواذ على نصف اللجنة أو ثلاثة أرباعها لتمرير دستور إسلامي يعكس مدي تفشي الأصولية في التعامل مع المجتمع، وفرض الهيمنة ومصادرة الآخر وعدم إيجاد فرص حقيقية لجو ديمقراطي يتم عن روح المشاركة لا المغالبة، على أن مسألة الدستور الإسلامي وتجربته تحتاج إلى مقالات توضيحية في الأيام المقبلة). أوضحت في المقال السابق أن المؤسسة العسكرية بطبيعتها مؤسسة محافظة ولا تسعي إلى التغيير إلا لصالحها وهي لا تسعي إلي الشراكة الاقتصادية بل لها إمبراطوريتها المالية التي تهيمن عليها، فهي تحتكر رأس المال بدوافع ذاتية مغلفة بطابع وطني، وهنا يأتي وجه التشابة الثالث بين الدينية والعسكرية في أن الأولي لا تمتلك أو حتي حاولت أن تطور نظاما اقتصاديا بديلا عن الرأسمالية يتماشي وفق المنهج الديني الذي تتبناه وتنادي به فهي لا تملك سوي مسألة إلغاء النظام الربوي دون أن تقدم بدائل كما أوضحنا على الجوانب الاقتصادية الأخرى، زيادة على كونها غارقة في الرأسمالية وبنيتها المؤسسية الاقتصادية قائمة عليها مما يؤكد على أنها لا تملك سوي هذا النموذج الذي اعتمدته وأسست نفسها عليها. هذا التشابه بين آليات العمل وطريقة الهيمنة يؤكد على أن الديمقراطية تستحيل تحت حكك الفاشية مهما تعددت أشكالها وأدواتها . Comment *