أدى التلويح الدائم والمستمر بعقوبات أمريكية ضد طهران إلى زعزعة استقرار سوق الصرف الإيراني في الشهور الماضية، الأمر الذي دفع السلطات الإيرانية لاتخاذ جملة من الإجراءات للحيلولة دون تدهور اقتصادها، ومن أبرز هذه الإجراءات التحول إلى اليورو، حيث أوعزت الحكومة الإيرانية بالأمس لجميع الجهات الرسمية بالتعامل باليورو بدل الدولار في المعاملات الرسمية، واعتماد العملة الأوروبية في إعداد التقارير ونشر الإحصائيات والمعلومات المالية، في إطار محاولتها خفض الاعتماد على العملة الأمريكية. واتخذ القرار خلال اجتماع لمجلس الوزراء الإيراني، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة لإدارة أسعار الصرف ودعم العملة الإيرانية الآخذة في التراجع. وظلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على مدى أعوام تسعى للتحول بعيدًا عن الدولار، بسبب التوترات السياسية مع واشنطن، على الرغم من أن غالبية التجارة الخارجية للبلاد كانت تتم بالدولار، كما يستخدمه الإيرانيون في السفر والادخار. وفي شهر نوفمبر الماضي قال المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، محمد باقر نوبخت، إن بلاده اتخذت خطوات عملية لإقصاء الدولار من تعاملاتها التجارية الدولية والتركيز على اليورو. وأوضح حينها أن إيران ماضية في هذا الإجراء بالتعاون مع بلدان المنطقة، مثل روسيا وأذربيجان، دون أن يذكر طبيعة الإجراءات الإيرانية في هذا السياق. وتسيرالمعاملات المصرفية الإيرانية، والتي يستخدم فيها الدولار، بصعوبة؛ بسبب المخاطر القانونية، بالإضافة إلى التعنت الأمريكي في عدم تطبيق الاتفاق النووي الذي يفضي إلى رفع العقوبات الاقتصادية على إيران، حيث عمدت الولاياتالمتحدة إلى عزل إيران عن النظام المصرفي العالمي، الأمر الذي يعني حرمان إيران من تخفيف الضغوط على الاقتصاد والعقوبات التي وعدت بها، وستؤدي في النهاية إلى تدمير الاتفاقية في حال قرار إيران الانسحاب منها، بسبب عدم تحقق الجدوى الاقتصادية، وهي هدف هذا الاتفاق في الأصل، خاصة أن الشركات الأجنبية معرضة هي الأخرى للعقوبات الأمريكية إذا أبرمت صفقات مع إيران بالدولار، حتى في العمليات التي تشمل فروعًا غير موجودة في الولاياتالمتحدة. التحول إلى اليورو هو محاولة إيرانية للالتفاف على المحاولات الأمريكية للضغط على الاتفاقية النووية من البوابة الاقتصادية، الأمر الذي سيحقق لها منافع اقتصادية وسياسية بطبيعة الحال. فمن الناحية الاقتصادية ستمنح هذه الخطوة طهران مرونة أكثر في التعاطي مع النظام المصرفي العالمي عبر القارة العجوز، خاصة أن هناك إشارات أوروبية لطهران بتعاون ما في هذا السياق، ففي ظل عدم قدرة البنوك الأوروبية على التعامل مع نظيرتها الإيرانية في ظل العقوبات الأمريكية، قال رئيس بنك الاستثمار الحكومي الفرنسي بي. بي. آي فرانس في فبراير الماضي إنه نتيجة لذلك ستبدأ فرنسا في طرح ائتمانات مقومة باليورو لمشتري السلع الأوروبية الإيرانيين في نهاية العام الحالي؛ لإبقاء تجارتها بمنأى عن العقوبات الأمريكية. ومن الناحية السياسية تتسق خطوة التحول الإيراني إلى اليورو مع ما يدور حولها من أحداث سياسية، فقبل أيام فشل الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات اقتصادية جديدة ضد طهران، صحيح أن هذا الفشل نسبي في ظل عدم انتهاء المحاولات الأوروبية ضد إيران، إلا أنه حمل في طياته بعض الملامح المبدئية للاتحاد الأوروبي، خاصة أن العقوبات الأوروبية في حال نجاحها كانت تسعى لمنع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من تمزيق الاتفاق النووي، وهو الأمر الذي سيقرره ترامب في 12 مايو المقبل، والاكتفاء بالعقوبات كبديل عن التمزيق، كما أن دولًا أوربية ساندت صراحة الاتفاقية النووية الإيرانية كإيطاليا وإسبانيا والنمسا والسويد، وحاولت إيقاف الجهود البريطانية الفرنسية الألمانية لتوجيه عقوبات جديدة ضد طهران، وهو ما تم بالفعل. توجه إيران إلى اليورو فيه دعم إيراني مبطن للجهود الأوروبية الرامية للحيلولة دون انهيار الاتفاق، وفي نفس الوقت سيعطي إشارات مهمة للاتحاد الأوروبي بالموثوقية كأحد الأطراف الضامنة للاتفاق، وهي نقطة مهمة جدًّا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، الذي يعاني فترة من الاضطراب بعد الخروج البريطاني منه وتلويح دول أوروبية أخرى بالخروج منه، ولا يجب أن ننسى المنافسة المستترة بين الدولار واليورو للهيمنة على الاقتصاد، والتي اعترف بها ويلارد وركمان المسؤول في غرفة التجارة الأمريكيةبواشنطن، حينما قال "من المحتمل أن يتمكن اليورو في أحد الأيام أن يصبح منافسًا للدولار كعملة احتياطية"، لكن للقيام بذلك "سيكون من اللازم أن تثبت العملة الأوروبية الجديدة مصداقيتها". التوجه الإيراني قد يعطي انتعاشه لليورو أيضًا، خاصة في ظل الحديث عن مخاطر إفلاس اليونان وتأثيره على انهيار اليورو، ونجاح التجربة الإيرانية في الانتقال إلى اليورو قد يدفع العديد من الدول لتكرار التجربة، خاصة في ظل الممارسات الاقتصادية الأمريكية المعادية لاقتصاديات العديد من الدول، كفرض الجمارك على وارادت الصلب والألمونيوم. الجدير بالذكر أن الريال الإيراني كان قد فقد ما يقرب من نصف قيمته في السوق الحرة بين سبتمبر الماضي والأسبوع الماضي، حيث هوى إلى مستوى قياسي مقابل الدولار عند 60 ألف ريال. الأمر الذي دفع إيران لاتخاذ خطوات اقتصادية أخرى غير التوجه لليورو، فقامت بتحديد سعر صرف ثابت عند 42 ألف ريال مقابل الدولار، وحذرت الإيرانيين من عقوبات لمن يستخدم أسعار صرف أخرى. ونقلت وكالة الطلبة الإيرانية للأنباء عن سعيد منتظر المهدي المتحدث باسم الشرطة قوله إن 39 تاجر عملة أٌلقي القبض عليهم "بسبب إخلالهم بالسوق"، وجرى إغلاق 80 مكتب صرافة غير مرخص في الأيام القليلة الماضية. وكان المرشد الإيراني، علي الخامنئي، قد ألقى يوم الأربعاء باللوم على أعداء في الخارج لإحداث "المشاكل الأخيرة في سوق الصرف"، وطلب من أجهزة المخابرات الإيرانية نزع فتيل المؤامرات التي تحاك ضد طهران. ومن ضمن الإجراءات أيضًا مطالبة البنك المركزي الإيراني جميع المصدرين أن يبادروا إلى بيع العملة الصعبة التي حصلوا عليها من عمليات التصدير، باستثناء العملة المخصصة للاستيراد أو تسديد الديون بالعملة الصعبة، أو الإيداع. كما حددت إيران حجم العملة الصعبة، التي يسمح للمواطنين الإيرانيين بحيازتها، ب 10 آلاف يورو، أو ما يعادلها من العملة الصعبة كحد أقصى.