يحمل بين يديه أكياسًا بلاستيكية حمراء بها قفازات بيضاء ملوثة بالدماء و"حقن" و"سرنجات" وأجهزة طبية تخص مرضى الغسيل الكلوي ومرضى الفيروسات الكبدية وأجهزة أخرى تخص أطفال الحضانات ومرضى القلب، وعبوات ثالثة مضغوطة في الجوار وفوط صحية ملوثة بالدم أو الإفرازات، ومتبقيات أمصال ولقاحات ومشارط جراحية من بقايا العمليات التي تُجرى يوميًا في غرف الرعاية الصحية. بين حين وآخر، يتابع عامل النظافة الأربعيني أحمد أمين عبد العزيز، عملية جمع تلك النفايات الطبية الخطرة من جميع أقسام مستشفى "حميات المحلة"، المختلفة بصورة يومية لينقلها وزملاؤه الثلاثين الآخرين إلى غرفة التخزين الخاصة بها، الواقعة على أطراف المستشفى، التي تتكدس بها أكوام من الأكياس الحمراء "الخاصة بالنفايات الطبية" التي تفوح منها الروائح الكريهة. قبل سبعة أشهر، بدأ العامل الأربعيني رحلة العمل داخل عنابر المستشفى الواقعة في منطقة "الشعبية" عند مدخل مدينة المحلة الكبرى، ليجمع بيديه كل ما على أرضية المستشفى من قمامة ونفايات خطرة وإبر ومحاقن وشفرات حادة وأجهزة تحاليل خاصة بالمرضى وعبوات أدوية فارغة، ومعدات طبية مستعملة، يتعامل معها بيديه بشكل مباشر دون قفازات أو عازل طبي واقٍ أو حقن وأمصال سنوية أو ملابس مجهزة بأدوات السلامة المهنية تحميه من انتقال العدوى إليه بصورة أو بأخرى، حسب توصيات منظمة الصحة العالمية. الوضع ذاته، ينطبق على جميع زملائه العاملين بالمستشفى لأكثر من 12 ساعة يوميًا مقابل 700 جنيه، تُعطى لهم عند نهاية كل شهر ولا تمنحهم إدارة المستشفى الأمصال الوقائية اللازمة لهم ضد الإنفلونزا الموسمية والالتهاب السحائي أو إجراء التحاليل الدورية والتطعيمات المحصنة لهم لمكافحة العدوى ووقايتهم من انتقال الأمراض طوال ساعات عملهم وترددهم على الأقسام نتيجة تعاملهم المباشر مع تلك النفايات الصلبة الخطرة. بعد شهور قليلة من عمله داخل جدران المستشفى وتعامله المباشر مع النفايات والمرضى، بدأت تظهر عليه أعراض مفاجئة، بفقدان الشهية في الأكل والشرب، وانتفخت بطنه بصورة مقلقة دون مبررات وبدأ يشعر بوخز وألم شديد في جنبه الأيسر يتكرر معه ليل نهار مع تورم خفيف في وجهه لدرجة تفقده القدرة على الحركة كما كان يفعل من قبل إلى أن فقد القدرة على الحركة. بوجه شاحب وجسد نحيل وملامح غاضبة، كان يحمل أحمد أمين صور الأشعة والتحاليل والفحوصات الطبية الخاصة به التي طلبها منه أحد الأطباء المقربين منه بالمستشفى وفوجئ بنسبة دهون عالية على الكبد فأجرى تحليل وظائف الكبد "PCR" بمساعدة بعض أهل الخير. هنا أخبره الطبيب: "انت عندك الفيروس"، فلم يتمالك نفسه من وقع الكلمات التي نزلت عليه كالجبل فأصابته بالدهشة والخوف، فقال: "يعني إحنا هنا بنعالج الناس من الفيروس وبناخد منهم المرض عشان مافيش أي حاجة تحمينا من العدوى في المستشفى.. يرضي مين ده يارب". حال باقي العاملين بالمستشفى من عمال النظافة والممرضات لا يقل سوءًا عن عامل النظافة أحمد أمين، الذي اكتشف إصابته المتأخرة بالالتهاب الكبدي الوبائي ولم تُسعفه إدارة المستشفى أو تجري له التحاليل والفحوصات اللازمة، بحسب تصريحات إدارة المستشفى وتوصيات وزارة الصحة بإجراء ذلك بشكل دوري على جموع العاملين، فضلًا عن توفير العلاج والحقن المناسبة لهم ممن يحاربون يوميًا من أجل لقمة العيش ويتحملون الإصابات والعدوى في سبيل 700 أو 800 جنيه شهريًا. 8 ملايين مصاب يوم بعد الآخر، نسمع عن حالة إصابة جديدة بفيروس التهاب الكبد الوبائي "سي" دون مقدمات حتى احتلت مصر مكانة عالمية متقدمة على رأس الدول التي تسجل أعلى الإصابات بالفيروس الذي يهدد العالم كله ويصيب ملايين الأشخاص سنويًا، وفي الوقت الذي تسير فيه الحكومة على طريق العلاج بأحدث العقاقير واستيراد أدوية بأسعار باهظة وتوزيعها على المواطنين بالمجان، في ظل تبني حملة قومية للعلاج من الفيروسات الكبدية وسط إشادة عالمية بالتجربة المصرية الفريدة، ما تزال مصر تقف محلك سر في طرق مكافحة العدوى. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن هناك من 6 -8 ملايين مصري مصابين بالتهاب كبدي فيروسي مزمن، وحتى الآن ما تم علاجه مليون ونصف مريض، هو قمة الجبل الجليدي أما باقي الجبل فمازال مختفيًا تحت الماء، ويجب بذل الكثير من الجهد لاكتشاف الحالات المتعددة وعلاجها ومنع وقوع إصابات جديدة بالمرض، وهم أكثر عرضة للإصابة بتليف كبدي، وقد ينقلون العدوى إلى غيرهم دون أن يعرفوا أنهم مصابون بالوباء الصامت. كما أن الفيروسات المسببة لالتهاب الكبد، لم تكتشف إلا منذ وقت قريب بحسب الدكتور وحيد دوس، رئيس اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية، وفي غالب الأحيان، يكون وباء صامت وذو طبيعة حميدة في مراحله المبكرة وتمرّ سنوات طويلة بين العدوى وظهور مظاهر وأعراض المرض الكبدي المزمن أو سرطان الكبد، ما يجعل من الصعب ربط هذه الأمراض بالعدوى بالتهاب الكبد الوبائي "بي، سي" وكل ذلك يؤدي إلى الإصابة بالوباء الصامت. ويمكن للالتهاب الكبدي الفيروسي إذا لم يُعالج أن يؤدي إلى تشمع الكبد "تليف" غير قابل للشفاء وفي حالات التشمع الشديد قد ينتج عنها قصور في وظائف الكبد، ولا يوجد علاج سوى زراعة الكبد، وتشير الدراسات الدولية إلى تطور التشمع الكبدي المرتبط بالتهاب الكبد في اتجاه القصور في مريض واحد من كل خمسة وفي اتجاه السرطان في واحد من كل عشرين مريض. احذروا.. الفيرس يمرّ من هنا من جانبها، أجرت "البديل" جولة ميدانية على عدد من مراكز التجميل وعيادات الأسنان (10 مراكز تجميل، 8 عيادات أسنان) بين محافظتي القاهرة والغربية، وكانت المفاجأة أن هذه الأماكن من أكثر الوسائط التي تنقل عدوى الفيروسات الكبدية بين المواطنين. خلال الجولة، توصلنا إلى عدم وجود جهاز تعقيم واحد في ال10 مراكز تجميل التي قمنا بزيارتها بمدينتي المحلة وطنطا، وجهاز "أوتوكلاف" وحيد للتعقيم داخل عيادات الأسنان الثمانية بمنطقة وسط القاهرة، والباقي يكتفون بغسل الأدوات المعدنية الحادة بطرق بدائية "بالصابون أو الديتول" التي لا تكفي لقتل الفيروسات. الخطة القومية قبل نهاية عام 2006، تأسست اللجنة القومية لمكافحة الفيروسات الكبدية بتفويض يتمثل في وضع خطة قومية لمكافحة الفيروسات الكبدية ووضعت الخطة الأولى على مرحلتين، كل مرحلة 4 سنوات منذ عام 2008 بموازنة سنوية قدرها 80 مليون دولار، وكان العلاج يعتمد على عقاري "الإنترفيرون" مع "الريبافيرين". واستهدفت الخطة القومية، معالجة 20% من المرضى، لكنها بحسب هبة ونيس، الباحث في مجال الحق في الدواء بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، اقتصرت على المرضى من ذوي نسب الشفاء الأعلى وهم نسبة لا تتعدى 2% أو أكثر قليلًا، وتم استبعاد الأطفال من الخطة وتجاهل ما يقرب من 95% من المرضى المعرضين للعدوى. ولم تتحمل الحكومة وحدها فاتورة العلاج، وساهمت فقط ب40% من الإنفاق الفعلي المخصص للبرنامج العلاجي وشركات التأمين ومنظمات المجتمع المدني التزمت بتغطية النسبة الباقية، تمت الخطة على مرحلتين؛ الأولى منذ عام 2008 وحتى 2012، والثانية تستغرق أيضًا 4 سنوات أخرى من 2014 حتى 2018، وكانت المفاجأة أنه في المرحلة الأولى، لم يحصل على علاج فيروس سي سوى 2.8% من المرضى، ولم يشف منهم سوى 1.67%. وفي ظل عدم نجاح الخطة الأولى في تنفيذ أي من إجراءات مكافحة العدوى، وتعميمها على مستوى الجمهورية، جرى تطوير الجزء الثاني من الخطة منذ عام 2014 وحتى 2018 بموازنة أعلى من سابقتها ولقيت الخطة الجديدة الدعم الكافي من بعض الشركاء العالميين؛ من بينهم معهد "باستير" الفرنسي، ومنظمة الصحة العالمية ومركز مكافحة الأمراض الأمريكي. الحل من وجهة نظر الدكتور وحيد دوس، مدير اللجنة العليا للفيروسات الكبدية، يتمثل في بعض الإجراءات البسيطة التي يمكنها أن تقلل من انتقال العدوى بالتهاب الكبد الفيروسي، والوقاية من أمراض معدية أخرى، بداية من التطعيم باللقاحات والغذاء الآمن ونقل الدم الآمن والسرنجات الآمنة والحقن ذاتية التدمير، بالإضافة إلى حملات التوعية التي نجحت في تغيير الكثير من السلوكيات الخاطئة عبر الجهود المتواصلة لتعزيز الصحة، والتي يجب أن تركز على السلوكيات التي تعرض الناس لمخاطر العدوى والتي يمكن تغييرها. ولا تزال الوسائل الرئيسية للوقاية من التهاب الكبد الفيروسي، تتمثل في الحقن الآمن وترشيد استخدام الحقن، ونقل الدم الآمن مع ضمان توفير الطعام والماء الآمن للبلدان مع التخلص الملائم من الفضلات الصحية بشكل مناسب. انتشار العدوى في المستشفيات الحكومية وأرجع الدكتور محمد عز العرب، مؤسس وحدة الأورام بمعهد الكبد القومي والمستشار الطبي لمركز الحق في الدواء، تزايد معدلات انتشار الفيروسات الكبدية في مصر، إلى عدم تطبيق معايير الجودة في مكافحة الأمراض المعدية داخل المستشفيات والمنشآت الطبية العامة والخاصة، ومنها القصور الشديد في تطبيق إجراءات مكافحة العدوى في إجراء عمليات المناظير وإلزام أطقم التمريض بتغيير المستلزمات الطبية خلال التعامل من مريض لآخر، ما يعزز أكثر من 70% من مسببات الإصابة بالفيروسات الكبدية وانتشارها، وباقي الأسباب ناتجة عن نقل الدم ومشتقاته، وأكثر من 30% من العدوى تتوزع بين أفراد الأسرة، بعد ذلك نتيجة استعمال أدوات أحد المصابين بالفيروس. وأضاف عز العرب ل"البديل"، أن الأزمة ليست في الذين تم علاجهم والبالغ عددهم نحو مليون و600 ألف مريض؛ يمثلون أكثر من 60% ممن تم علاجهم من فيروس سي على مستوى العالم، لكن في عودة المرض إليهم مرة أخرى، ومن ثم لابد من التخلص الآمن من النفايات الطبية أو وسائط نقل العدوى، لضمان عدم نقل العدوى من شخص مصاب لآخر سليم، متابعا أنه من بين كل ألف شخص يُصاب من 2-6 أشخاص بالفيروس، ويُقدر عدد المصابين بالمرض سنويًا حوالي 180- 500 ألف، بما يضع مصر في مكانة متقدمة من حيث معدلات الإصابة السنوية بفيروس سي. واقترح المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، ضرورة مشاركة الجامعات، وأقسام الصحة العامة في 18 جامعة حكومية، بالإضافة للجامعات الخاصة لعمل مشروعات خدمية لمكافحة العدوى بالمشاركة مع رجال الأعمال وإعادة شاملة لجميع الأساليب المستخدمة في ذلك، موضحا أن غياب الرؤية وآليات التنفيذ والإشراف المباشر، السبب الأكبر الذي يتسبب في زيادة انتشار العدوى وإعادة تدوير النفايات في مصانع بير السلم لاستخدامها مرة ثانية. وطالب بمعرفة أبعاد المشكلة وتوفير الإمكانيات اللازمة، من وسائل النقل والسيارات الخاصة، رغم أنه يوجد في جميع المنشآت الطبية لجنة مختصة لمكافحة العدوى على الورق فقط تجتمع دوريًا والممرضات لا ينفذون ذلك وبعض أعضاء الفريق الطبي، مشددا على ضرورة إعادة الهيكلة التنظيمية في الجهات الحكومية كافة المسؤولة عن مكافحة العدوى في قطاع الطب الوقائي ومديريات الشؤون الصحية الفرعية، وصولًا لاستخدام أساليب جديدة في التوعية الصحية تصل إلى المواطنين في أماكنهم.