كنت أظنها رسالة شرف وما دونها الموت، وفي أحيان كنت اُضفي عليها القداسة فتبدو وكأنها جهاداً في سبيل الوطن.. كانت يوماً ما تعني كل الحياة لحالم أراد بلوغ المستحيل، فإذا به وقد أفاق بعد سنوات ليكتشف بلاهته، وأن الرسالة المقدسة التي ظل قابضا عليها بكلتا يديه هي مجرد لحظات جنون وحماقة ونزق. قليلة جداً هي كتاباتي عن ذاتي وما ينتابها من ارتباك، فهذه المساحة البيضاء وتلك الأوراق والأقلام ليسوا ملكاً لي، ولا يجب أن أُسخّرهم لأغتر بحالي أو أرثيها.. هم أسلحة وذخيرة ومدد وهبهم الله سبحانه لضعيف أعزل كي يكونوا سنداً له في معركته الأبدية ضد ألد أعداء الوجود والإنسانية.. "الظلم والاستبداد والغرور". هذه المرة يبدو المشهد الذاتي أشد تعقيداً وأصوات الندم أكثر إلحاحاً ودوياً عن ذي قبل، فما خُيل لي يوماً أنه إشارة سماوية بضرورة الانحياز لما أراه حقاً ساطعاً، يعتبره أغلب المصريين عبثاً وبلا فائدة، لذا وجدت لزاماً أن أتوقف برهة لأسأل: "لماذا اُصر علي الكتابة بإلحاح لقارئ يري كلماتي مضيعة للوقت؟ ولمن أكتب.. لنفسي أم لهم أم لأجل وطن كان يوماً ذو بأس ثم صار بؤساً وعبئاً جاثماً فوق الصدور التي ضاقت من فرط الهوان والاستسلام؟". أقنعت نفسي لسنوات طويلة بأنني دون شك محظوظاً لاعتبارات كثيرة، منها مثلاً وجودي في وطن مسلوب وسط شعب مصلوب وسلطة تحكم بسياط البطش والتمييز لا بسياط الحق والعدل، فها أنذا لحسن حظوظي قد خُلقت في الوقت والمكان المناسبين، وحينها نذرت عقلي وكل أسلحتي للمهمة المقدسة التي فُرضت عليّ وهي إنصاف قومي العُزل والإيقاع بآلهة الظلم والاستعباد، كما تضاعفت فرحتي بعد أن أصبحت الآن ولأول مرة.. "صاحب مبدأ ورسالة". رغم ما يحيطنا من ظلام ظللت متمسكاً بأيقونة الحظ، مؤمناً بأن من حُسن الطالع أن تسوء الأمور في بلادي أكثر حتي تسمو قضيتي أكثر وأكثر، ولكن شيئاً فشيئاً زحفت العتمة من حولي لتستقر في قلبي وروحي، فحال هذا السواد الحالك داخلي من قدرتي علي تمييز الخطأ والصواب، الحق والباطل، المبدأ والمصلحة، فما حسبته يوماً فعلاً وطنياً بحتاً تبدّل فجأة حتي صرت في عيون هؤلاء العُزل.. "خائناً للوطن". لا تحاول أن تسألني الآن عن قاعدة الحظ التي آمنت بها عمراً، فكلما تذكرت تلك الأفكار الخبيثة ومقدار ثقتي فيها زادت حاجتي إلي الضحك والبكاء معاً، أكنت ساذجاً بهذا القدر؟ كيف أصدق أن الحظ يمكن أن يتحالف يوماً مع من يعيشون في أوطانهم بلا حقوق؟ أهذا يسمي حظاً أم بالأحري هو أصل التعاسة والشقاء؟ ألهذا الحد بلغت من الحماقة.. سحقاً للبلهاء الحمقي أمثالي. لا تخجل من قذفي بأبذئ العبارات بعد أن نقلت إليك عدوي الإحباط واليأس، بل صب لعناتك عليّ وزد منها كما تشاء، فقد تعودت أن أكون في مرمي شتائم الجميع بدرجة أفقدتني إتزاني يوماً بعد الآخر، وكنت أردد حينها سراً: "لما يكرهونني وأنا أقف عارياً في مواجهة هذا الغول الذي أزهق أصوات آخرين غيري، ظنوا أيضاً أنهم أصحاب مبدأ؟".. كانوا يسبونني وهم لا يدركون أنني خائفاً مثلهم، وتمنيت مرة أن أكتب إليهم لأناشدهم التوقف واعترف أمامهم بأنني لطالما خبأت خوفي بينهم، محتمياً بهم وليس حامياً لهم كما اعتقدت قبلاً. عندما يصبح وجودك عديم الفائدة تكون رسالتك بلا قيمة أو كأنها لم تكن.. فإن كان كل شيء مرتباً لن ينقص أو يزيد بوجودك أو غيابك، وإن كان الجميع قد انقسم بين فريق أدمن التصفيق وآخر آثر الصمت، فمن المناسب أن أدرك حماقة السير وحيداً في طريق نهايته ستقودني لأكون رقماً جديداً في طابور طويل من سجناء الحرية، وها أنا أقف الآن لأسأل نفسي ثانية بصدق: "ألم يحن الوقت بعد لأنضم صاغراً كغيري إلي أحد هذين الفريقين؟". يا سادة، أبدو أمامكم كمن فقد بوصلته فأضاع الطريق، فلم أكن يوماً أعارض بحثاً عن المجد، ولم أعارض من هناك بل علي بعد خطوات ممن يملكون سلطة نزع الحريات دون سند أو قانون.. لم أكن يوماً حائراً إلي هذا الحد، أنصت بإلحاح إلي هواجسي وهي تقول: "ألم يحن الوقت لتتوقف عن عبث الكثابة أمام هذا العبث الذي يملأ الحيز بكامله من حولنا؟.. هل ستظل قابضاً علي المبدأ كالجمر أم ستلعن ذلك اليوم الذي اعتقدت فيه وهماً أنك كنت.. "صاحب مبدأ ورسالة".