فى مؤتمر الحزب الشيوعى بموسكو عام 1956، وبعد أن ألقى نيكيتا خروشوف خطابه التاريخى الذى كشف فيه عن انتهاك الحريات وحقوق الإنسان فى عهد جوزيف ستالين، بدأ أعضاء المؤتمر يقدمون إليه أسئلتهم مكتوبة وموقعة بأسمائهم، وكان من بينها سؤال يقول: إذا كان هذا الانتهاك لحقوق الإنسان قد حدث أيام ستالين، فأين كنت أنت؟ قرأ خروشوف السؤال ولاحظ أنه بلا توقيع فصاح بانفعال بالغ قائلا: من صاحب هذا السؤال؟ ولكن لم يرد أحد خوفا من العواقب، وعندئذ ضحك خروشوف وقال: جوابى أننى كنت مثلك يا صاحب السؤال. كان ستالين لا يختلف عليه اثنان بأنه كان من الشخصيات المرعبة، فهو رجل شرير، عنيف، قاسى القلب، ديكتاتور قتل الملايين من شعبه دون التوقف ولو للحظة لإعادة التفكير، وجرائمه فى التاريخ لا تمحى، وبالتأكيد كانت له شخصيته المميزة وبصمته المتفردة فى الاستبداد والإجرام، ولكن هناك مجموعة من الطبائع والسمات مشتركة عند جميع الطغاة والحكام المستبدين مهما اختلفوا فى الزمان والمكان. وبشكل عام، كل ديكتاتور مصاب حتما بمرض جنون العظمة، الميجالومانيا، حيث يبالغ الإنسان بوصف نفسه بما يخالف الواقع، فيدعى امتلاك قدرات استثنائية أو مواهب مميزة ليس لها وجود حقيقى.
فى كتابه "طبائع الاستبداد"، يقول عبد الرحمن الكواكبى: "ما من مستبد إلا ويتخذ صفة قدسية يشارك بها الله". فالديكتاتور يعتقد أنه على تواصل مع قوى عليا يستمد منها قدرات خارقة لحماية وإنقاذ شعبه من المخاطر التى تحيق به. إنه ملهم الشعب ومصدر الأمان بالنسبة له.
سألت باربرا والترز، الإعلامية الأمريكية المشهورة، بشار الأسد لماذا تقتل شعبك؟ فأجاب أنا أعلم بشعبى, وظيفتى أن أحمى شعبى من الجماعات المسلحة. وسأل مراسل أجنبى القذافى لماذا لا تستجيب لمطالب شعبك؟ فأجاب أنا أعرف شعبى, شعبى يحبنى. وسألت كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مبارك ما الإصلاحات التى تقوم بها من أجل شعبك؟ فأجاب أنا أعرف شعبى, شعبى لا يحب التدخل الخارجى. هكذا يتحدث الديكتاتور دائما وكأنه يعرف كل شىء, يملك كل شىء, دائما على حق, هو المركز وكل ما يدور حوله ينطلق من وجوده.
والديكتاتور يستبد برأيه وينفرد ويستقل به، ولا يستمع لغيره ولا يتسع صدره لأى خلاف من أى نوع، فهذا الخلاف حتى لو كان بسيطا جدا يُشكل خطرا على سلطته وعلى وجوده، لذلك يستوجب التخلص من صاحبه وبدون أى تردد. وتكفى كلمة واحدة مخالفة لرأى الديكتاتور كى تودى بصاحبها إلى العزل السياسى وربما التصفية الجسدية، حتى لو كان من أقرب المقربين ومن أكثر الموالين المخلصين، فالديكتاتور لا يعرف الرحمة والشفقة، ويقوم بتصفية كل من يختلف معه أو يمكن أن يهدد سلطته.
بعد أن أجبر سلفه أحمد حسن البكر على الاستقالة فى عام 1979، وبعد مرور خمسة أيام فقط على توليه السلطة، عقد صدام حسين مؤتمرا قوميا لقيادات حزب البعث الحاكم، وأثناء الاجتماع قام الأمين العام لمجلس قيادة الثورة، محيى عبد الحسين، بقراءة اعتراف بأنه قد تآمر ضد صدام حسين مع 68 آخرين من "أعداء الدولة" ذكر أسماءهم، وكان كلما ذكر اسم، تم إخراج صاحبه من الاجتماع وقتله، وجرى إعدام 22 منهم بإطلاق النار عليهم على وجه السرعة، بواسطة أعضاء من حزب البعث، الذى كان قد طلب من كل فرع من فروعه إرسال مندوب عنه يحمل بندقية كى يشترك فى عمليات الإعدام، وفى غضون الأيام القليلة التالية تم إعدام مئات الأفراد.
والديكتاتور شخص طموح ويُسخر كل شىء فى سبيل الوصول إلى هدفه وغايته، حتى ولو كان ذلك على حساب وطنه وشعبه. فى جمهورية أفريقيا الوسطى، فى الوقت الذى مات فيه ربع أطفال البلاد فى عام 1976 من سوء التغذية والمرض والفقر، لم يمنع هذا الحاكم العسكرى جان بيدل بوكاسا من إنفاق ثلث ميزانية الدولة فى يوم واحد لتحقيق طموحه الشخصى والاحتفال بتنصيبه إمبراطورا فى العام نفسه. وفى العراق، وبينما كان الشعب العراقى جائعا ومريضا والاقتصاد العراقى منهار تحت وطأة عقوبات الأممالمتحدة فى منتصف التسعينات، قرر صدام حسين بناء أكبر مسجد فى العالم ليحمل اسمه. وكان من المقرر بناء المسجد وسط بحيرة صناعية فى منطقة المنصور فى بغداد، وكان من المفروض أن يكون مؤلفا من ثمان مآذن، وقبة بارتفاع مائة وخمسين مترا، ويستوعب مائة ألف مصل. الغزو الأمريكى للعراق فى عام 2003، وضع حدا لهذا المشروع الذى مازال هيكله يلوح فوق بغداد.
والديكتاتور متكبر ومغرور ويعتقد أنه دائما على حق وصواب، وأنه المصدر الوحيد للرأى الصحيح والفكر الصحيح، وقراراته دائما حكيمة، كما يعتقد أنه شخص مهم جدا على الصعيد العالمى، وأن سياساته تشكل حجر الزاوية فى السياسة الدولية، وكبار فلاسفة العالم ينتظرون سماع رأيه. وهو معصوم من الخطأ، فإذا حدث خلل ما وانتشر الفساد فى البلاد، فهذه مسئولية الوزراء الذين لم يطبقوا جيدا نصائحه وتوجيهاته، وهذا ما تلخصه مقولة "هو كويس بس اللى حواليه فاسدين"، فلقد اختاره القدر لأنه شخص مميز ليس كالآخرين، ولا يوجد أى شخص آخر يمتلك قدراته، لذلك مكانه لا يمكن أن يُصبح شاغر إلا بموته.
والديكتاتور يشعر أن الجميع يريد النيل منه عبر حياكة مؤامرات سرية ضده، ولديه شعور دائم بالتهديد من قبل أعداء، لذلك يكون حذرا، قلقا، حساسا جدا وسريع الاتهام للآخرين بالكذب والتآمر عليه وخصوصا لمن يخالفه الرأى، فأى اختلاف معه بالرأى هو جزء من المؤامرة عليه. ويشعر الديكتاتور أيضا بنشوة سلطته ويتحسسها من وقت لآخر من خلال خطاباته الاستعراضية أو من خلال مظاهر التزلف التى يُجبر الشعب بشكل مباشر أو غير مباشر على القيام بها: تفويضات شعبية، مؤتمرات مؤيدة، قصائد تمدح شخصه، أغانى تمجد إنجازاته، برامج تليفزيونية تروج لمشروعاته القومية.
والديكتاتور يحيط نفسه بحاشية من المنتفعين، حاشية لا تقول "لا" أبدا، شخصيات منافقة ووصولية ومشوهة نفسيا، والتى تحول دون قدرته على رؤية الواقع رؤية حقيقية، فيعيش الديكتاتور فى عالمه الخاص، متقوقعا على مجده الذاتى الزائف، منفصلا تماما عن الواقع، فمثلا فى إجابة للزعيم الرومانى نيكولاى تشاوشيسكو على سؤال لأحد الصحفيين عما إذا كانت المظاهرات التى عمت مدن رومانيا ستؤدى للتغيير، وهل يخشى أن تتطور الأمور للأسوأ، صرح قائلا: "لا يوجد شىء مما تقولونه"، واستطرد بصلف مستهزئا: "لن يحدث تغيير فى رومانيا إلا إذا تحولت أشجار البلوط إلى تين". وبعد أربعة أيام فقط من هذا التصريح، تم القبض على الطاغية هاربا مع زوجته، قبل أن يتم إعدامهما رميا بالرصاص.
تلك كانت بعض طبائع وسمات الديكتاتور. والتاريخ يحمل العديد والعديد من قصص الطغاة والحكام المستبدين، وما فعلوه بأوطانهم، وما فعلته بهم الشعوب، ليس منها قصة واحدة تنتهى نهاية سعيدة. إنها لحظة واحدة لو استمع فيها الديكتاتور لصوت الضمير بداخله، بمعزل عن أبواق النفاق، لأدرك أنه لن يستطع أن يحكم أبدا، وأنه لن يُخلد، وأنه فى نهاية المطاف إنسان مثل بقية البشر يجوع ويمرض ويموت، ولكفى وطنه وشعبه ونفسه شرورا كثيرة، لكنه مرض الديكتاتورية، عافانا الله وإياكم من هذا المرض.