لا حديث هذه الأيّام إلاّ عن ويكيليكس وفضح المستور، حتّى أنني لن أتورّع عن التسرّع في الحديث عن ثقافة-الويكي أو الويكي-ثقافة، أيّهما أصحّ. لكن قبل ذلك، أودّ أن أنطلق من حادثة وقعت منذ سنوات: كنّا مجتمعين بأحد النوادي الثقافيّة التي نجحنا في تأسيسها بعد أن أقصتنا فضاءات قبلها وطردتنا إلى غير رجعة بسبب رفضنا الخضوع للإملاءات السياسيّة التي تجيّر الثقافة صكّا على بياض لصالح الحزب الحاكم. ولم نكن وقتها نمثّل لونا سياسيّا بعينه، إنّما شبابا توّاقا إلى ثقافة بديلة، أصيلة كفرس عربيّ لا يركب صهوتها إلاّ فارس “مثقّف”. غير أنّ عمى الألوان لدى المسيّرين والمسؤولين يجعلهم لا يرون فينا إلاّ شرذمة من الشباب المشاغب، أو بتعبيرهم: “المعارض” رغم أننا لم نعارض سوى الرداءة والابتذال والتوظيف السياسي الفجّ. كنّا مجتمعين في نادينا الوليد وقتها والذي مات في المهد قبل أن يلثغ حروفه الأولى، ولا أدري كيف انحرف الحديث وانجرف – والحديث ذو شجون (وفي رواية أخرى سقطت نقاط الشين) – فتداولنا مسيرتنا المرهقة بين الفضاءات التي “ابنفسجت” (تحوّلت إلى اللون البنفسجيّ) بفعل القوّة فأطردتنا من رحمها، حين قال مسيّر النادي بلهجة أقرب إلى التوسّل: “يا أصدقاء، عارضوا، لكن لا تعارضوا بقوّة !!!”. أضحكتنا العبارة حينها كثيرا، وما زالت تضحكنا كلّما استرجعناها، فمسيّر نادينا كان يخشى أن تشكّ قوافينا وخربشاتنا جنب “الدّابّة” فتثيرها علينا، فكان يرجونا أن نشذّب لحى كلماتنا الناتئة وأن نقلّم أظافرها لألاّ تخدش الوجه الناعم لذات الخدور الذي أصقلته الألسن اللاعقة، “دابّتنا” التي إن أقلقنا نومها لا شكّ ستتحوّل إلى وحش كاسر. وكنّا نتساءل: “هل توجد درجات في المعارضة كأن تعارض ربع معارضة أو ثلثيها أو كلّها؟ أو أن تضع لكلماتك محرارا فما تجاوزت حرارته درجة الغليان تلقيه، وما دون ذلك تتركه وإن كان متجمّدا متجلّطا كجثث الموتى؟”. كنّا إذّاك نسعى إلى إحياء ما نكتبه بتلاوته على آذان بعضنا ونقول: “يقبر النصّ (سردا كان أو شعرا) إذا لم ينزل أذنا تستسيغه ولم يلق لسانا يلوكه ويهتك عرضه كشفا وتعرية ونقدا وتمحيصا”، ولم تكن آنذاك طفرة الإنترنت قد حلّت، ولم يكن جمهورنا أكبر من قاعة صغيرة في فضاء ثقافيّ صغير تحاصره عيون مخبرين برتبة رجال ثقافة. ورغم ذلك كان خوف السلطة من نصوصنا كخوف قرية من الطاعون أن يهلكها، نستشعره في كلّ نفس نجهد في التقاطه ولا نفهم ما الذي يزعج النظام إن قلنا شعرا أو كتبنا أدبا. طبعا لم نقرأ وقتها تصريحات وزير الداخلية في مؤتمر قادة الأمن العرب الأخير وهو يذكّر بتحذير بلادنا من مخاطر طفرة التكنولوجيّات بعد ما أحدثه تسونامي ويكيليكس من رجّة، ولم نكن نعي أن كلمة قد تهزّ العرش. كان الأدب يقتضينا أن نواري ونرمّز ونشفّر رسائلنا – توصي اليوم الحكومات العربيّة بتشفير الرسائل الحكومية والأمنيّة خشية من الاختراق وكشف المستور – وكنّا ننتظر الخلاص على أيدي متسلّلين يهتكون رموزنا ويستخرجون ما أبطنّاه من معنى – وتحذّر اليوم أنظمتنا العربيّة من اختراقات القراصنة – لكي يبين ما أفنينا الليالي في إخفائه. شأن الفنّ التورية، وشأن الحياة الفضح. فهل كنّا نحتاج إلى “أسانج” لنفهم أن ما خفي كان أعظم، وأننا بحاجة إلى “النميمة السياسيّة” لنضع إصبعنا على الأدواء؟ وأن الحقيقة تحتاج من يفتضّ عنها ختم قمقمها لتخرج ماردا محتقنا بغضب قرون من الكتمان؟ أنضجتنا الأيّام وهزّاتها فتعلّمنا أن نضع على الداء إصبعنا. كان في أعماق كلّ منّا – والقائمة تطول وتتّسع للمئات من الأقلام التي حبّرت والأقلام التي ستحبّر – كان ذاك المارد الويكيليكسيّ يأمرنا بالمنكر/الفضح وينهانا عن المعروف/التستّر. وكانت أقلامنا غابات من النخل الشامخ في وجه أعاصير السائد. “أرى النخل يمشي !” وشت لهم زرقاء اليمامة فانتبهوا، وأعدّوا المشانق على الطريق، بروا أقلاما كثيرة لكنّ كثيرا منها استطالت بعد كل بري، فلجؤوا إلى التاريخ يستنبطون منه الحيلة. خرج مناديهم يبشّر: “من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن !” فعجّت دار أبي سفيان. قالوا: “نحن نعارض لكن بلطف !” وقال ابن القارح: “كانت الخنساء في أقصى الجنّة وهي في مطلع تطلّ على جهنّم لترى أخاها **** كالجبل الشامخ والنار تضطرم برأسه مصداقا لقولها فيه: وإنّ **** لتأتمّ الهداة به // كأنّه علم في رأسه نار” ماذا لو ترجمنا ما سبق إلى لغة ويكيليكس؟ أعيدوا صلاتكم فمن تأتمّون به ليس سوى سراب يقودكم إلى الخراب. معذرة فحتّى لغة الويكيليكس تحتاج إلى فكّ الشفرة. صحافي من تونس خلفيّة للقارئ غير التونسي في السنوات الأخيرة، هيمنت عائلة الرئيس بن علي على المجال الإعلامي بكلّ أشكاله، وكانت ضربة البداية بإنشاء صخر الماطري صهر الرئيس إذاعة الزيتونة الدّينيّة قبل أن يستولي على إحدى أعرق الصحف التونسية: الصّباح. استقطبت الصّباح وكذلك وسائل الإعلام التابعة للعائلة عددا يتزايد كلّ يوم من المثقّفين التونسيّين ومن الأقلام المستقلّة والمحترمة. اليوم، أصبح المشهد الإعلامي في تونس تتنازعه ثلاث توجّهات متصارعة: الإعلام الرسمي وشبه الرسمي (الكلاسيكي) الإعلام المعارض (قلّة) وإعلام العائلة. مواضيع ذات صلة 1. الشبكة العربية تدين نشر 9 صحف مصرية إعلانات تحريرية للدعاية للنظام التونسي 2. المشاركون في ندوة المواطن الصحفي بنقابة الصحفيين : صحافة المواطن ستجبر الحكومة على فك قيود الإعلام وزيادة الديمقراطية 3. حريات الصحفيين تدعو لمظاهرة حاشدة السبت للمطالبة بالإفراج عن الصحفي بدر محمد بدر 4. الصفاقسى التونسي يدخل معسكرا استعدادا لنهائي إفريقيا 5. إلهامي الميرغني يكتب: البديل حلم وليس جريدة أو موقع اليكتروني فقط