كيف لقلم أن يتخطى ذلك الحزن الساكن بالأعماق، كيف لعين أن تتجاهل مشاهد الآباء فوق أكفان أبنائهم أو بجوارها، وكيف لفم أن يبتسم ومصر غارقة في حداد أقامته البيوت ولم تعلنه الدولة، ثم كيف لنفس أو لعقل أن يستريح بعدما كشفه حادث "الواحات" من كوارث. الحديث هنا لا يتعلق بسوء الإدارة ولا بالأخطاء والتقصير أو الخيانات، كما أنه لن يقف أمام أسباب نجاح الإرهاب في ضرب شرق البلاد وغربها ثلاث مرات خلال اسبوع واحد، فالوقوف هنا إجباري أمام أولوية أخرى، ألا وهي طبيعة العلاقة القائمة بين السلطة والشعب، أو الدولة والمواطنين.
لقد صارت المسافة كبيرة بين القائمين على الدولة ومواطنيها، وهذا كلام لا يقع في إطار المبالغة السياسية، لكنه واقع لم تصنعه المعارضة ولا يدعيه الخونة، واقع لا يقف عند حد التهميش السياسي، وخنق المجال العام وغياب الشراكة المجتمعية، واقع يتمثل في قوانين تنزل من أعلى وقرارات لا تنتظر أو تهتم بالقبول الشعبي، واقع تمدد ليصل لمرحلته الأخطر.
فالبلد لم يصبح بلدا واحدا بل اثنين، والدولة باتت دولتين، دولة السلطة وأجهزتها ومسئوليها؛ ودولة الشعب وأبنائهم، فمن ماتوا يوم الجمعة الماضية كانوا أبناء الشعب ولم يكونوا ممثلي الأجهزة، مَّن ذرف الدموع كان الشعب، ومَّن صمت وتجاهل كانت الدولة، مَّن دفع الثمن في فلذات أكبادهم كانوا المواطنون، ومَّن قفز على جراحهم كانوا إعلاميو الدولة وأجهزتها.
عند الدولة؛ كان سعي الناس للمعرفة استعجالا غير مرغوب فيه، وكان تفاعل الشعب مع الحادث إزعاجا يجب الحد منه، والأكثر من ذلك؛ أن إعلام الأجهزة؛ الذي يتحرك بالأمر المباشر؛ جاء ليهاجم المواطنيين الذين لم يصمتوا وينتظروا لحين صدور البيانات الرسمية..!.
لم تضع الدولة في اعتبارها ذوي الشهداء ولا مشاعر المواطنين، وتعاملت على أن الجريمة بهذا الحجم والكيفية دليل فشل لأجهزتها، واختارت الصمت لحين اتخاذ قرار بتوقيت وطريقة الإعلان؛ عله يغطي أو يقلل من هذا الفشل، وأثناء حساباتها هذه لم تقم وزنا للطرف الثاني؛ والذي كان هذه المرة المجرم الإرهابي الذي ارتكب الفعل، والذي لديه من معلومات الحادث ما لا يقل وربما يزيد عما لديها في حينه، ولم تفقه أن المعلومة في حد ذاتها؛ تمثل مجالا أخر للحرب وساحة أخرى للنصر والهزيمة.
ثم لم تعتذر الدولة ولا أجهزتها عن التأخير في الإعلان عن الحادث، ولم تطلب العفو من شعب تم تجاهله كأنه غير معني بما يجري، في حين كان يمكن تدارك الخطأ والتعذر بحجم الكارثة أو بالصدمة التي تركها فقدان خيرة من شباب ورجال الداخلية وفرسانها، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، والعكس تماما كان واقعا.
لقد اتفق على غير توافق كل من الإرهاب وأجهزة الدولة ضد المصريين، فالإرهابيون لم يضربوا ضباط الداخلية، أعوان الطاغوت كما تردد قيادتهم، لكنهم ضربوا قلوب المصريين وألبسوهم السواد وأورثوهم الأحزان، ثم أتى أداء الأجهزة ليقول إن المواطنين الذين يدفعون كامل الفواتير في هذه الحرب لا اعتبار لهم، وكأنهم مواطني دولة أخرى. للأسف إنها الحقيقة التي جاءت جريمة "الواحات" لتؤكدها، الحقيقة التي تقول إن أهل الحكم يؤمنون أنهم الدولة، والدولة هم، وأن الشعب دولة أخرى لا حاجة لإرضاءه أو انتظار قبوله، وهذا أخطر ما يمكن أن تصل له دولة.
لقد أصابت مصر نكسة 1967 نتيجة غياب المشاركة السياسية، فماذا يمكن أن يحدث مع الآن مع التغييب الكامل للشعب، وعدم الاعتراف بقيمته ولا وجوده من الأساس، ولم تنجح المصائب واحدة تلو الأخرى في التوقف والتبين، والاستفادة من الأخطاء، كما لم تحدث مراجعة للنهج العام والسياسة العامة، مع استمرار التعامل غير الرشيد مع عناصر الدولة، وكل هذا يجب تداركه قبل فوات الأوان.