لماذا يجب أن نعيد نشر ما جاء في تقرير لجنة إجرانت؟ لأنه لم يزل أقوى دليل وأهم اعتراف إسرائيلي على ما جرى في أكتوبر 1973 بعد ظهور الدعاوى التي تقول إن الحرب قد انتهت بالتعادل، ولأنه يؤكد كذلك أن سبب هزيمة إسرائيل لم يكن جيشها فقط، وإنما شعبها، وبالتالي فإن الذي هزم لم يكن الجيش فقط، وإنما الدولة بأفكارها وثقافتها وقيمها وحضارتها المزعومة، وبالفعل أثار التقرير ردود فعل عنيفة داخل المجتمع الإسرائيلي الذي لم يصدق الصدمة التي كشفت عن الأساطير والأوهام التي اخترعها قادتهم، وشعروا بانهيار كل المزاعم، وأنهم عرايا أمام القوات المصرية. استغرق عمل لجنة إجرانت أربعة عشر شهرًا كاملة، بحثت خلالها عشرات الآلاف من الوثائق خلال مائة وست وخمسين جلسة، وتم الاستماع إلى ستين شاهدًا، بداية من رئيسة الوزراء جولدا مائير حتى صغار الجنود، وظل التقرير النهائي الكامل سريًّا لم يفرج عنه إلا مع نهاية عام 1997. يقع التقرير فى 1552 صفحة، ويتناول أربعة أجزاء: الأول يشمل المعلومات التي توافرت في الفترة التي سبقت الحرب والتي تتحدث عن نوايا مصر وسوريا في إعلان الحرب ومصداقية هذه المعلومات، وشمل الجزء الثاني استعدادات الجيش الإسرائيلي في الأيام التى سبقت الحرب، أما الجزء الثالث فتحدث عن تنظيم الجيش الإسرائيلي بشكل عام، والجزء الأخير تكلم عن عمليات الجيش الإسرائيلي لصد الهجمات المصرية والسورية. في الجزء الأول تم تحديد ثلاثة عناصر أساسية كانت وراء فشل المخابرات الإسرائيلية في توفير معلومات وتقديرات مسبقة وتقديمها للجيش الإسرائيلي لكى يحتاط ويفشل الخطة المباغتة والخداع المصري، إذ إن المخابرات الإسرائيلية كانت لديها قناعة تامة بأن مصر لن تدخل الحرب دون أن تتأكد تمامًا من أنها تمتلك قدرات جوية تستطيع أن تضرب العمق الإسرائيلي، وفي نفس الوقت لن تدخل سوريا الحرب بمفردها. وكان السبب الثاني هو فشل "إيلي زعيرا" مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية في تحقيق الوعد الذي قطعه على نفسه بأن المخابرات الإسرائيلية ستمنح الجيش الإسرائيلي إنذارًا مسبقًا بفترة تكفي لحشد منظم لقوات الاحتياط، وكذلك الفشل الكامل في تفسير المعلومات الخاصة بوجود حشود مصرية وسورية والتي اعتبرت أنها مجرد تدريبات على الجبهة المصرية وذات نسق دفاعي على الجبهة السورية. وكشفت المناقشات الساخنة داخل لجنة إجرانت أن خطة الدفاع المصرية كانت ناجحة لأقصى درجة، وأقنعت الإسرائيليين بأن احتمال نشوب حرب على الجانب المصري ضئيل للغاية على الرغم من توافر المعلومات للإسرائيليين عن إجلاء العائلات الروسية من مصر وسوريا بشكل مفاجئ. وكشف التقرير عن عيوب داخل الجيش الإسرائيلي الذي فقد حالة الانضباط العسكري، وأصبح يعيش على أسطورة وهمية بعد حرب يونيو 1967، وجاء في التقرير "بعد انتصار يونيو 1967 حصل قادة الجيش الإسرائيلى على هالة وتقدير، ولكن مع هذا الإحساس بالفخر أتت مظاهر الدعة والاستكانة وتخفيف التوتر والهدوء، وبدأت تطفو مظاهر عدم الحرص، وكان الجيش الإسرائيلي مفككًا من الداخل رغم كل ما يزعمونه من أنه جيش لا يقهر، لينكشف الوجه الحقيقي لتلك الأسطورة الزائفة". واتهمت لجنة التحقيق رئيس الأركان الإسرائيلي "دافيد إليعازر" بأنه يتحمل مسؤولية ما حدث عشية حرب أكتوبر بشكل شخصي، لعدم تقديره الصحيح وإخفاقه في مجال استعداد الجيش الإسرائيلي، حيث جاء في قرار اللجنة "نحن نقر اتهامه بحزن وأسى، فقد كان رئيس الأركان يتمتع بثقة كبيرة لدينا ولدى الإسرائيليين، ولكن لأنه لم يصمد وارتكب أخطاء كثيرة، فنحن نوصي بإنهاء خدمته كرئيس للأركان". وكشف الجنرال "إفراهام برن" قائد القطاع الشمالي من سيناء أثناء الحرب أن لجنة التحقيق لم تحقق في أمر ما يسمى بالثغرة التي قام بها إريل شارون نحو الضفة الغربية للقناة، وأكد الجنرال بكل وضوح أنها كانت عبارة عن فشل تام وانسحاب شارون من أربعة مواقع. وأطاحت لجنة التحقيق بعدد لا بأس به من رؤوس الجنرالات الذين تميزوا بالصلف والغرور، ثم جاءت ردود أفعال الإسرائيليين الذين شعروا بمرارة الهزيمة، لتقيل الساسة الذين حاولت اللجنة تبرئتهم، وبعد تسريح القيادات العسكرية بتوصيات من اللجنة، خرجت مظاهرات عنيفة تطالب بمعاقبة القيادات التي أوهمتهم بقوة زائفة، وكانت الصفعات موجهة بشكل أساسي إلى جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في ذلك الوقت وموشى دايان وزير الدفاع، وكان معظم المتظاهرين من جنود الاحتياط، ونظموا إضرابات عن الطعام، مما دفع جولدا مائير للاستقالة وتشكيل حكومة جديدة برئاسة إسحاق رابين. في نفس الوقت نشبت حرب داخل الجيش الإسرائيلي نفسه، سُميت بحرب الجنرالات، تبادل فيها القادة الاتهامات بالتقصير، بل الكذب في تقارير رسمية والفشل في تنفيذ المهام. كان لكل هذه الأحداث تأثير أعمق داخل المجتمع الإسرائيلي من كافة جوانبه، حتى إن البعض أطلق عليه الزلزال الذي هز المجتمع الإسرائيلي، ومن ثم تم الكشف عن العديد من سلبيات هذا المجتمع والتي أطلق عليها في ذلك الوقت "التقصير(مجدال)"، وذلك من أجل تخفيف وقع الهزيمة، ليصبح مصطلحًا في كتابات الإسرائيليين خاصًّا بالسلبيات التي أدت إلى هزيمتهم في حرب أكتوبر. والواقع أن ما جاء في التقرير وما تلاه من ردود أفعال يؤكدان أن هزيمة إسرائيل لم تكن "تقصيرًا"، وإنما فضيحة إسرائيلية بكل المقاييس.