أن يخاطب الرئيس المصري، للمرة الثانية من على نفس المنصة، والثالثة منذ توليه الحكم، "الشعب" الإسرائيلي ويطمئنه على أمنه وينصحه بالوثوق في حكومة نتنياهو، يعني ما هو أكثر من بروتوكولات المجاملات الدبلوماسية، ولا بديهيات الخطاب السياسي في هكذا مناسبة، ويخرج حتى عن نمط الخطاب السائد من حكام مصر منذ توقيع اتفاقية السلام بين البلدين 1979، بل يشي بعدة محددات جديدة تتجاوز ما استقرت عليه العلاقات المصرية-الإسرائيلية في الفترة ما بين توقيع الاتفاقية وحتى تولي السيسي الحكم، وذلك في ظل ما يشبه موسم من التنافس بين دول عربية حول أكثرهم قرباً وأهمية لإسرائيل، نتج عنه مفاعيل غير مسبوقة! الكلمة التي ألقاها السيسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، أتت بعد لقاء ثنائي بين السيسي ونتنياهو أتسم بالدفء أمام كاميرات للتدليل على قوة العلاقات بين تل أبيب والقاهرة، في ظل مناخ يتسم بالمنافسة والمزايدة؛ أولاً المنافسة بين دول عربية تتحالف مع إسرائيل ويتسابق قادتها على قيادة هذا التحالف.ومزايدة داخلية في الشارع الإسرائيلي على الحكومة بأن إنجاز نتنياهو الأهم المتعلق بتطوير العلاقات الإسرائيلية العربية إلى حد التحالف السياسي غير كافي لتحييد أخطار أمنية وجودية على الكيان الصهيوني، وهو ما أنعكس في خطاب نتنياهو في نفس المناسبة، الذي بدوره شدد على تقديره ل"المجهودات التي يقوم بها الرئيس عبد الفتاح السيسي من أجل دعم عملية السلام، إن إسرائيل ملتزمة بتحقيق السلام مع جميع جيراننا العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، وتقف كتفاُ بكتف مع أولئك الذين يشاركونها الأمل في مستقبل مشرق"، وذلك بإفراد عنوان جانبي ضمن عناوين رئيسية في خطابه تمحورت حول "الخطر الإيراني" سواء فيما يتعلق بمخاوف تل أبيب التقليدية المتعلقة بالبرنامج النووي ودعم المقاومة، أو التهديد الاستراتيجي الجديد، المتمثل في انتصارات محور المقاومة مؤخراً في سورياوالعراق، والتي تؤسس لواقع جديد لمرحلة ما بعد داعش، يكون فيها وجود إسرائيل مهدد كما يرى العسكريين والأمنيين الإسرائيليين أنفسهم، حسب معطيات العقيدة الأمنية الجديد، والذي يرى بعض منهم أن التحالف العربي-الإسرائيلي الذي يثمنه نتنياهو غير كافي لمعالجة هذا التهديد الاستراتيجي. السابق من هذه الزاوية، لا يمكن فصله عن الجدال الداخلي في إسرائيل الخاصة بسياسات حكومة نتنياهو، والتي تنتقد تعويل الأخير على التحالف مع دول عربية لمواجهة "أخطار مشتركة"، فيقول المعلق العسكري في القناة الثانية الإسرائيلية، أمنون ابرامفيتش: " خطاب رئيس الوزراء المكرر بتطور العلاقات بين إسرائيل ودول عربية كالسعودية والإمارات وكل الدول التي تدور في فلكهم لا تنفي واقع تهديد كبير على حدودنا وسيطول الداخل، وتحييد هذا لا تقوى عليه حدود قدرتنا العسكرية والسياسية حتى بالتحالف مع هذه الدول، العامل الحاسم أولاً وقبل أي شيء أخر عند واشنطن وموسكو، هؤلاء من يستطيعوا أن يبعدوا إيران عن حدودنا، وهو ما يلخص معظم النقاش الدائر بين مختلف الدوائر السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية، حول ما احتاطت به حكومة نتنياهو أمام المتغيرات الجيوستراتيجية والإستراتيجية الجديدة بعد الإنجازات الميدانية التي حققها محور المقاومة من العراق وحتى لبنان مروراً بسوريا، والتي أجهضت أي مخططات من شأنها الحفاظ على مصالح إسرائيل على ضوء تطورات ما بعد 2011، وهو الأمر الذي على الجانب الأخر يحاجج نتنياهو بأن العلاقات مع دول عربية وتقويتها لمستوى تحالف تكفي لأن تكافئ وتجابه هذا الخطر "الأعظم" الذي لا تقدر إسرائيل على مواجهته بتصريحات عسكريين إسرائيليين. لتأتي طمأنة رئيس أول دولة عربية تقيم علاقات مع تل أبيب لتؤكد على أن "أمن الإسرائيلي" أولوية للدول الحليفة لإسرائيل مثلما هو أولوية لحكومة نتنياهو، أي أنها رسالة دعم متبادل بين الحكومتين تتجاوز محددات العلاقات التقليدية بينهم، إلى محددات مدفوعة بالموائمة بين برجماتية سياسية وكذا التنافس على أهمية موقع القاهرة في التحالف العربي-الإسرائيلي، وتأكيد على مركزية وريادة مصر للدرجة التي تجعل رئيسها قلق ومهتم بأمن المستوطن الإسرائيلي! هذه المفارقة السابقة تحمل دلالة هامة على مناخ المنافسة والصراع بين الدول العربية الأربعة: السعودية والإمارات وقطر ومصر على قيادة التطبيع وتعميمه مع إسرائيل، وأن أحد محاور الخلاف بين السعودية والإمارات ومصر من جهة، وقطر ومن ورائها تركيا من جهة محصور في أي من الفريقين ينجح في تعميم التطبيع على مستويات رسمية وشعبية في كافة المجالات. فلا يقتصر الأمر على المنافسة بين المحورين السابقين على تعميم التطبيع وتوسيع "السلام" وكلاهما يخضعان لمظلة السياسات والهيمنة الأميركية، بل يصل إلى الصراع بين أحد مكونات فريق منهم ويمتد إلى منافسة بين الدول الحليفة لواشنطن التي يطلق عليها دول "الاعتدال"، التي تُحدد حالياً بكل من السعودية والإمارات ومصر، حيث وراثة دور الأخيرة الإقليمي من قبل الرياضوأبوظبي، ومن ضمن مفاعيل هذا الدور وأحد أهم مقوماته منذ الثمانينيات والتسعينيات هو إدارة العلاقات العربية- الإسرائيلية، ليس فقط على مستوى ثنائي ولا حتى على مستوى القضية الفلسطينية وكل الملفات المرتبطة بها، ولكن حالياً على من يقود التقارب العربي رسمياً عبر مؤسسات رسمية مثل الجامعة العربية وبشكل مُعمم مع إسرائيل. هذا التكامل والتوافق لا ينفصل عن الصورة الكاملة للتحالف العربي الذي وصل في تطرفه إلى منافسة بين الدول الثلاث بعد أن تقاسموا فيه الأدوار حتى وقت قريب؛ حيث تمسكت مصر بريادة التطبيع مع إسرائيل وما نتج عن ذلك في العقود التالية من فعاليات وطدت دور مصر الإقليمي كأحد حلفاء واشنطن في المنطقة وتصدرها بالقيادة والوساطة في تجليات "عملية السلام"، ذهبت الإمارات للريادة ما تأخرت عنه مصر فيما يخص الشق الاقتصادي والتجاري، بل وحتى التمثيل الدبلوماسي للدول العربية –بخلاف مصر والأردن- التي يوجد بينها وبين تل أبيب علاقات من أي نوع، فيما ذهب السعودية لما هو أبعد من ذلك من خلال ربط مجالها الحيوي بالمجال الحيوي لإسرائيل في خليج العقبة والبحر الأحمر من خلال شراء أدوات قوة ونفوذ الدور الإقليمي لمصر ممثلة في اتفاقية تيران وصنافير، وهو ما تطور حالياً إلى تراجع مصر عن تصدر تطوير العلاقات العربية مع إسرائيل وتركها هذا الموقع القيادي لكل من أبو ظبي والرياض، واكتفاء القاهرة بالمشتركات الثنائية بينها وبين تل أبيب كأولوية عمل مشترك، سواء في سيناء أو في ملف سد النهضة، وترك الملفات الإقليمية المتماسة مع إسرائيل ومسألة توسيع "السلام الدافئ" للرياض وأبوظبي. برز هذا التنافس خلال الثلاثة أعوام الماضية وخاصة منذ حرب غزة 2014 التي أتت أحد دوافعها على مستوى إقليمي كبالون اختبار إسرائيلي واستكشاف قوة الأطراف العربية ومدى تأثيرها على مسارات القضية الفلسطينية والتطبيع مع تل أبيب، حيث وذلك بعد ذروة صدام بين المحوريين ذروتها ما حدث في مصر يونيو 2013، وخروج مصر من محاولات تبعية موقفها الخارجي لقطر وتركيا إلى السعودية والإمارات، وما تبع ذلك على مدار العاميين الماضيين من تباينات والخلافات بين هذه الدول الثلاث لم تعكر تكامل كل منهم فيما يخص التقارب مع إسرائيل. هذه المنهجية تطورت من طوعية الاصطفاف خلف مصر في الثمانينيات والتسعينيات تحت مظلة السياسات الأميركية فيما يتعلق ب"عملية السلام" – الجدير بالذكر أن مقاطعة مصر بعد توقيع اتفاقية السلام كان ليس لأن مصر عقدت اتفاقية مع إسرائيل ولكن لأنها عقدتها بشكل منفرد بعيد عن باقي الدول وبشكل أهلّ القاهرة لأن تصبح الحليف الأهم لواشنطن في المنطقة وهو ما يتغير الأن – إلى مشاركة مصر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي تجلت ذروته في مبادرة السلام السعودية-العربية 2002، وصولاً إلى مزاحمة مصر في ملفات تتعلق بإسرائيل سواء التطبيع معها أو فيما يخص حل القضية الفلسطينية من منظور أميركي وما يتبع ذلك من ملفات مثل قطاع غزة، حيث ترعى الإمارات مؤخراً ملف مصالحة بين حماس وبين رجلها محمد دحلان يكاد يكون دور القاهرة فيه روتيني أكثر من كونه فاعل وذو رؤية، ليأتي الرئيس السيسي ومن على منصة الأممالمتحدة ليؤكد على أهمية ومركزية مصر بالنسبة لمصلحة إسرائيل، في تبادل توافقي مع نتنياهو يتخطى التهميش المتعمد لدور القاهرة من جانب "حلفائها" فيما يخص العلاقات مع تل أبيب، حتى وإن كانوا جميعهم يعملون ضد محددات الأمن القومي المصري! هذا التناقض يعكس أولويات النظام المصري الحالي المضطربة بسبب اشتداد حمية التنافس العربي على التحالف مع إسرائيل، ليس فقط فيما يخص القضية الفلسطينية وإدارة العلاقات العربية-الإسرائيلية والتطورات الأخيرة في المنطقة واللهاث العربي للتحالف مع إسرائيل وتفعيله، ولكن حتى سياق العلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل، وهو لهواة البرجماتية والمنفعة المتبادلة يأتي عكس مصلحة القاهرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ماذا عن أمن المواطن المصري في سيناء؟ وماذا تقدم إسرائيل في هذا السياق إلا شروط مجحفة تفرضها معاهدة "السلام" تغلّ يد القاهرة في مواجهة الإرهاب في سيناء؟ وعلى نفس السياق ما الذي أدى إلى تعويل القاهرة على دور فاعل لتل أبيب في ملفات مثل سد النهضة، وجعل من نفوذ إسرائيل في دول حوض النيل فرصة للمساومة والضغط؟.. الإجابة البديهية لمثل هكذا أسئلة تغطي جزء كبير من كشف التناقض بين اهتمام الرئيس بمصلحة وأمن المستوطن الإسرائيلي وبين جوهر أمن ومصلحة ومستقبل المواطن المصري.