يبدو أن القواعد العسكرية الأمريكية الصغيرة التي تم إنشاؤها في الشمال السوري، وتحديدًا في محافظتي الحسكة والرقة السوريتين، في طريقها إلى تقلد دور متقدم لهم في الصراع هناك، حيث تم للمرة الأولى إدخال 150 آلية عسكرية أمريكية على دفعة واحدة، من إقليم كردستان العراق، ذي الحكم الذاتي، إلى الحسكة، السبت الماضي، حيث المرتكز السياسي والعسكري الجديد لأكراد سوريا، وحيث تتمركز أيضًا قوات سوريا الديموقراطية الكردية المسلحة والمدعومة أمريكيًّا، والتي تشرع في طرد داعش من الرقة منذ نوفمبر من عام 2016، مع دعم جوي حربي ولوجيستي أمريكي كامل، ولم تستكمل هدفها حتى الآن رغم مرور تسعة أشهر كانت كافية للجيش العربي السوري بأن يحرر قطاعًا ضخمًا من أراضي سوريا ومساحته آلاف الكيلو مترات، وهي أكبر من تلك التي كانت تسيطر عليها الدولة السورية، أصلًا قبل الأشهر التسعة، فضلًا عن العديد من التفاهمات التي أجرتها قوات سوريا الديموقراطية مع داعش وقياداته لمفاوضتهم على الانسحاب أو نقل قواتهم والسماح أكثر من مرة لقوات لهم بالخروج من الرقة نحو تدمر شرقي حمص، حيث أهم المرتكزات العسكرية للجيش السوري في المرحلة الحالية من الحرب. أكبر قواعد الولاياتالمتحدة العسكرية في سوريا تم إنشاؤها بمدينة رميلان شمالي الحسكة، المحافظة الواقعة في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، ومن ثم ذات الحدود مع تركيا شمالًا ومع إقليم كردستان العراق شرقًا، الذي يسعى لإقامة استفتاء على استقلاله في سبتمبر المقبل، والحقيقة أنه لا يمكن قراءة الدخول الأمريكي الثقيل والفج دون النظر إلى وضعية الأكراد بصفة عامة في الآونة الأخيرة والمرحلة الحالية من الحرب السورية، كما لا يمكن فهم تلك الوضعية أيضًا دون فحص طبيعة النصر السوري العراقي المتواصل منذ بداية العام الحالي حتى اللحظة، وصولًا إلى نجاح الجيشين في تمزيق أطراف داعش وإسقاط رؤوسها الجغرافية الأهم. وأثبت الجيش السوري وحلفاؤه قابلية عالية لمواجهة داعش في الشمال بحسم وسرعة يكفلان القضاء عليها بالكامل كبنية تنظيمية وقوة عسكرية، وتم القضاء على الوجود الداعشي داخل المدن السورية الكبرى والمركزية وعلى تخومها القريبة، باستثناء دير الزور التي يتقدم الجيش نحوها بخطى متسارعة مؤخرًا، ومن ثم تتحقق الآن خطة دفع داعش نحو البادية بشكل تام، الأمر الذي حرم ويحرم أمريكا من استثمار وجود داعش لإيجاد نشاط عسكري كبير ودائم لها في سوريا، بالإضافة إلى نجاح السوريين جنوبًا في شل حركة الفصائل المحلية الأمريكية «مغاوير الثورة وأسود الشرقية وجيش سوريا الجديد»، بالإضافة إلى النصر الاستراتيجي بتحرير حلب وتثبيت كتلة حضور وسيطرة للدولة بقرب الحدود التركية مطلع العام الحالي، وبذلك فلا يوجد طرف فاعل يمثل مصالح أمريكا على الأرض السورية سوى الأكراد، الذين تم جمعهم أمريكيًّا مع عناصر وتشكيلات من ال«عرب السنة» في الكيان المصطنع قوات سوريا الديموقراطية في أواخر عام 2015 بموازاة بداية التدخل الروسي على الأرض. وكان ذلك البوابة الرئيسية للحضور العسكري الأمريكي في شمال سوريا تحت دعوى «دعمهم ومساعدتهم في مواجهة داعش»، الدعوى التي يثبت كذبها التام تعاظم هذا الحضور واتساعه، كما حدث بالأمس، كلما تضاءل وجود داعش وشهدت الهزائم الكبيرة وليس العكس، أي أن التواجد الأمريكي المسلح يتزايد باندثار تواجد داعش، مما يقطع أي شك في أن شعار «محاربة داعش» لم يكن سوى مبرر لتثبيت نقطة ارتكاز عسكرية أمريكية في سوريا، لم يتيسر تثبيتها جنوبًا، حيث شل الجيش السوري حركتها، فكان منطقيًّا أن يتكثف وضع المزيد من النقاط شمالًا في كنف الأكراد. بعد سنوات من الحرب في سوريا، تهدف إدارة ترامب إلى الخروج من هناك بمكسب حقيقي يعوض التكلفة السياسية الضخمة التي تورطت إدارة اوباما فيها، من هنا فالأكراد ورقة رابحة بدأ أوباما باستخدامها قبل رحيله وبلور ترامب ذلك، لضمان ألَّا تخرج أمريكا من سنوات الصراع السوري بلا مصالح متحققة، بل بوضع مضغوط نظرًا لاتساع النفوذ الإيراني واتصاله بمحيطه وصولًا إلى سوريا مرورًا بالعراق، بالإضافة إلى اتصال الحدود السورية العراقية وحرمان أمريكا من تثبيت نقطة عسكرية على تلك الحدود، وتلقي سوريا أسلحة استراتيجية ونوعية لم تكن لتحصل عليها لولا انطلاق محاولة إسقاط الدولة السورية، وما يتضح تباعًا من أن عقود إعادة الإعمار ستصب عند روسيا والصين والتكتل الاقتصادي الجديد الذي يمثلونه، والفشل الذريع للفصائل المصنوعة أمريكيًّا، التي، رغم جودة تسليحها، جاء أداؤها أمام الجيش السوري وداعش ضعيفًا للغاية، بما لا يؤهلها لتحمل مسؤولية الوكالة عن أمريكا على أرض سوريا، فضلًا عن انضباط تركيا أردوغان بفصائلها على الأرض السورية على الإيقاع الروسي وعمليته السياسية التفاوضية، بما يجعل تلك الفصائل المنقطعة أوصالها بين إدلب شمالًا ودرعا جنوبًا، وكيلًا لا يتمتع عمليًّا بقدرة كبيرة على الفعل في الواقع، رغم التنسيق والتعاون الأمريكي التركي القطري بخصوصها منذ بداية الحرب. لم يكن غريبًا إذن أن يتوازى الدخول الأمريكي الأكثر كثافة لآليات عسكرية قتالية إلى الحسكة مع تصاعد حملة مسعود بارزاني للاستقلال عن الدولة العراقية، كما جاء الدخول بعد اكتساح غير متوقع للجيش السوري لجنوب الرقة التي يسيطر الأكراد على أغلب مساحتها حاليًا، مع ما أعلنوه مسبقًا عن نيتهم الأمريكية بوضوح وبتصريحات المسؤولين الأمريكيين، في إقامة فيدرالية كردية شمال سوريا يتم في إطارها تقاسم السيطرة على الرقة بين الأكراد ومجموعات حليفة لأمريكا من العرب السنة، وسيكون الشعار الأمريكي القادم متناغمًا مع الشعار الأمريكي العام بخصوص الشرق الأوسط وسوريا، وهو ضمانة حقوق الأقليات، طائفية كانت أو عرقية، وسيكفل تعميق التواجد العسكري الأمريكي في أقصى الشمال السوري «الحسكة والرقة» على حدود كردستان العراق وحدود تركيا تطويقًا استراتيجيًّا للنصر العراقي الكبير في الموصل، وتعويضًا عن مثيله القادم في صحراء الأنبار التي بات وضع داعش فيها في حكم الساقط «عمليًّا» حتى لو لم ينتفِ بشكل تام.