"مقابر الإمام" بهذه الجملة الموجزة يُشير سكان حي الخليفة لمسجد الإمام الشافعي والمقابر الشاسعة المحيطة به، لا يهتم أهالي المنطقة بشخص الإمام الشافعي ولا مكانته وتاريخه ومذهبه، فهم يتحدثون عنه معه باعتباره أحد الأولياء الصالحين وحارس لمدينة الموتى الممتدة من مسجده وحتى سفح جبل المقطم. ينقسم المسجد الواقع في المنطقة الجنوبية لقلعة صلاح الدين إلى جزئين، أحدهما هو الضريح الكبير الذي تعلوه القبة الشهيرة، ويعود تاريخها لعصر الدولة الأيوبية، أما الجزء الآخر فهو المسجد المخصص للصلاة، وقامت ببناءه بصورته الحالية وزارة الأوقاف المصرية في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، وتم بناء واجهة المسجد بالحجر، وحُليت أعتاب الشبابيك بكتابات كوفية. وله منارة بنيت على مثال المنارات المملوكية، ومنبره مطعم بالآبنوس. رغم وفاة الإمام الشافعي ودفنه في مصر عام 204 هجريًا، إلا أن مقبرته لم تتحول إلى مقام وضريح سوى في القرن السادس الهجري، حين جاء صلاح الدين الأيوبي وشرع في بناء مدرسة ومسجد بجوار قبر الإمام الشافعي، وأمر صلاح الدين بعمل تابوت خشبي مزخرف، وكُتب عليه بالخط الكوفي " بسم الله الرحمن الرحيم وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، عُمل هذا الضريح المبارك للإمام الفقيه أبى عبد الله محمد بن إدريس العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف رحمه الله". مع وصول السلطان الكامل للحكم بدأ في بناء قبة كبيرة تُحيط بالضريح ، وصارت هذه القبة واحدة من أبرز معالم العمارة الأيوبية، وتُعد من أكبر وأروع القباب في مصر والعالم الإسلامي، وهى قبة خشبية مكسوة بالرصاص، وجدرانها من الداخل مبنية من الرخام، ويضم الضريح بجانب مقبرة الإمام الشافعي، ثلاث مقابر أخرى أحدهم للسلطان الكامل والأخرى لوالدته وزوجته، وقد اشتهرت قبة الشافعي بالعشارى فوقها، وهو مركب صغير مثبت في هلال القبة، يتكون الضريح الذي يُعد من أكبر أضرحة القاهرة من مساحة مربعة طول ضلعها من الداخل خمسة عشر مترًا وله جدران سميكة جدا، وتجاوز إرتفاعها عشرون مترًا، وللضريح ثلاثة محاريب وباب في كل من الحائطين الشرقي والشمالي. والحوائط الداخلية مغطاة بالرخام. شهد الضريح على مر تاريخه العديد من عمليات الترميم والتجديد، في هذا السياق يقول المؤرخ ابن أياس : "إن قايتباي أمر بإجراء إصلاحات بضريح الشافعي سنة 885 ه تحت إشراف شمس الدين بن الزمن رئيس أعماله للشئون المعمارية" ويقول الجبرتي: "إن على بك الكبير أزال القصدير المغطى لخشب القبة وغير الخشب الذي قد تآكل ثم وضع صفائح جديدة من القصدير ثم أصلح الزخارف الداخلية بطلاءات متعددة الألوان وقد دون ذلك على مربع القبة، أمر بتجديد هذه القبة المباركة على التخصص وتشيد بفنون النقش والترصيص عزيز مصر وحاكمها وذلك في افتتاح سنة ست وثمانين ومائة وألف من الهجرة أدام الله عزه ونصره". وبينما حافظ الضريح على جزء كبير من تاريخه، إلا أنه فُقد معظم آثارالمدرسة والمسجد اللذان أنشأهما صلاح الدين الأيوبى بجوار الضريح، وقد قام الأمير عبد الرحمن كتخدا بإنشاء مسجد وسبيل في ذات المكان، لكنهما تصدعا وتعرضا لإهمال كبير ولم يتبق منهما سوى بعض الآثار القليلة بالقرب من مدخل الضريح، وفي عهد الخديوي عباس حلمي الثاني بدأت وزارة الأوقاف في بناء المسجد من جديد على طراز الجوامع الحديثة، ويُعد المسجد الآن قبلة ومزار لكثير من طلاب المذهب الشافعي الذين يدرسون بالأزهر وخاصة من الطلاب القادمين من ماليزيا وأندونسيا. ورغم مكانة المسجد المهمة إلا أنه تعرض للسرقة ثلاث مرات خلال العشر سنوات الأخيرة، ففي سنة 2009 تمت سرقة حشوة خشبية من داخل المسجد، وفي سنة 2014 تمت سرقة خسمة حشوات أخرى، وفي شهر مارس عام 2017 تم سرقة الباب الخشبي لمقصورة السلطان الكامل، كما يتعرض المسجد لخطر شديد بسبب المياه الجوفيه بالمنطقة المحيطة بالمسجد، بالإضافة لإنتشار العشوائيات وغياب أي تواجد أمني مما يجعل المسجد عرضة للسرقة. الإمام الشافعي هو أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي من قبيلة عبد مناف. صاحب المذهب الشافعي و مؤسس علم أصول الفقه. وُلد الإمام الشافعي في مدينة غزة سنة 150 هجريًا، فقد خرج أبوه من مكة إلي فلسطين ثم توفي بها، وعادت به أمه إلي مكة، وكثرت أسفار الشافعي بين اليمن و مكة و بغداد و بلاد فارس يلتقي بكبار المشايخ و تدور بينهم الحوارات و المناظرات حتي ذاع صيته، وكان الشافعي يجمع بين معرفة الأحاديث والسنن من ناحية وبين فنون الجدل وإقامة الحجة والبرهان من ناحية أخري. سافر الشافعي لمصر في أواخر عمره، وكان مذهبا مالك وأبي حنيفة هما المنتشرين في مصر في ذلك الوقت. ولكن ما لبث أن ذاع صيت الشافعي و انتشر مذهبه بصورة كبيرة حتي أصبحت مصر معقل المذهب الشافعي من بين الأقطار الإسلامية، وخلال إقامته في مصر راجع الشافعي كتاب الرسالة الذي كان قد كتبه في مكة، وأسماه الرسالة الجديدة. ويُعد كتاب الرسالة أشهر كتب الإمام الشافعي علي الإطلاق، وهو الكتاب المؤسس لعلم أصول الفقه الإسلامي. وجمع فيه معاني القرآن وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة وأساليب استنباط الأحكام الفقهية. يقول أحمد بن حنبل عن "الرسالة" أنه " بيان أصول الفقه"، ظل الشافعي بمصر حتى وفاته عام 204 هجريًا.