أمين عام الشيوخ يلتقي العاملين بالأمانة العامة    بمشاركة 150 طالبًا.. جامعة قناة السويس تطلق معسكر صقل وتنمية مهارات الجوالة الجدد    الجبهة الوطنية يكلف الطويقي قائما بأعمال أمين الحزب بسوهاج    برلماني: القمة المصرية -الأوروبية تعزز الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الجانبين    الموانىء البرية والجافة: لميناء أكتوبر الجاف دور بارز وهام في حركة الواردات والصادرات القادمة والمتجهة من وإلى الموانئ البحريه المصرية    مصطفى البرغوثي: الموقف المصري أفشل أخطر مؤامرة ضد الشعب الفلسطيني    نبيل فهمي: ما يجري في غزة يشكل لحظة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي    اللجنة المصرية تسير قافلة المساعات الأكبر إلى غزة وشمال القطاع    بسبب إعلان تلفزيوني.. ترامب يوقف جميع المفاوضات التجارية مع كندا    نتائج مباريات الجولة العاشرة من دوري المحترفين    وزير الرياضة يطمئن على ابتسام زايد بعد إصابتها في بطولة العالم للدراجات    الخطيب: شركات الأهلي نجحت في تحقيق أهدافها    محمد نصر يغيب عن الإسماعيلى أمام فاركو فى الدوري بسبب الإصابة    ضبط سائق وضع كشافات عالية الإضاءة خلف سيارته بسوهاج    برفقتهم 25 طفلا.. تفاصيل ضبط شبكة تسول بالقاهرة    نجيب ساويرس يوضح غياب محمد سلام عن مهرجان الجونة السينمائي    متلعبش معاهم ب النار.. 3 أبراج انتقامية لا تنسى الخيانة أبدا    باللون الأسود.. إطلالة إلهام شاهين تخطف الأنظار في ختام مهرجان الجونة    نبيل فهمى: ما يجرى فى غزة يشكل لحظة فارقة فى تاريخ الصراع الفلسطينى الإسرائيلى    مخرج مسرحية «أم كلثوم»: أجرينا تجارب أداء مع 1000 متقدم    26 أكتوبر، جامعة أسيوط تنظم يوما علميا عن الوقاية من الجلطات    ضبط طن لانشون غير مطابق للمواصفات القياسية بمخزن غير مرخص بقها    إصابة 3 أشخاص فى انقلاب سيارة ربع نقل على مدخل الصحراوى بقرية النمسا بالأقصر    80 عاما على تأسيس الأمم المتحدة.. المشاط: مصر شريك فى دعم أجندة التنمية    إيقافات وغرامات بالجملة على الأهلي، عقوبات الجولة ال11 للدوري المصري    ننشر صورة ابتسام زايد لاعبة الدراجات بعد إجرائها عملية جراحية في الوجه    محمود فوزى بمنتدى البرلمانيين العربى - الآسيوى: التشريعات أداة لترجمة الإرادة السياسية    ضمن مبادرة "صحح مفاهيمك".. ندوة علمية حول الأمانة طريق النجاح بأوقاف الفيوم    بعد فوزه بمنصب مدير اليونسكو، المجلس الأعلى للجامعات يكرم خالد العناني    لو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت.. أزهرى يجيب عن حكم قبول الهدايا.. فيديو    جمارك مطار أسيوط تحبط محاولة تهريب كمية من مستحضرات التجميل    وزارة الرى تعلن أسباب ارتفاع منسوب النيل وتؤكد: الاستمرار فى إزالة التعديات    ليفربول قد يخسر مهاجمه أمام برينتفورد    سقوط محامي في قبضة الأمن وبحوزته كمية من "الشابو" في قنا    ساندويتش السمك المشوي.. وصفة المسلسلات التركية (طريقة تحضيرها)    وزير الدفاع والفريق أحمد خليفة يلتقيان رئيس أركان القوات البرية الباكستانية    مؤتمر حميات الفيوم يناقش الجديد في علاج الإيدز وفيروسات الكبد ب 12 بحثا    "الصحة" تعلن محاور المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية    مصرع شقيقين في أسوان اصطدم بهما قطار أثناء عبورهما شريط السكة الحديد    "الداخلية" ضبط 13 شركة ببني سويف للنصب علي راغبي السفر إلي الخارج    شهيدان وجريحان بغارة اسرائيلية استهدفت سيارة جنوب لبنان    عالم أزهري: أكثر اسمين من أسماء الله الحسنى تكرارًا في القرآن هما الرحمن والرحيم    أفضل الأدعية والأذكار المستحبة في يوم الجمعة وفضائل هذا اليوم المبارك    متابعة المشروعات وتنظيم المواقف والبنية التحتية.. أبرز أنشطة التنمية المحلية الأسبوعية    الوزير: افتتاح مصنع جديد في صناعة الضفائر الكهربائية للمركبات قريبا    فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة.. وحكم الاستماع إليها من الهاتف    سر ساعة الإجابة يوم الجمعة وفضل الدعاء في هذا الوقت المبارك    مجلة فوربس: رئيس الرعاية الصحية ضمن أبرز 10 قادة حكوميين بالشرق الأوسط لعام 2025    محمد ثروت: أم كلثوم بنت وجداني وعبدالوهاب كان معلمي عبر الإذاعة    مستوطنون يهاجمون منازل فلسطينيين في قرية الطوبا جنوب الخليل    الإغلاق الحكومي يربك حركة الطيران الأمريكي.. تأخيرات في مطارات نيويورك وواشنطن وهيوستن    تعرف على موعد بدء التوقيت الشتوي وموعد ضبط الساعة رسميًا    الفنان محمد صلاح جاد يتألق مع النجم سيد رجب في مسلسل «لينك»    "بدونه لن نصل للطريق الصحيح"، حسام المندوه يوضح سر اختياره رمز "الكتاب" في الانتخابات (صور)    82.8 % صافي تعاملات المستثمرين المصريين بالبورصة خلال جلسة نهاية الأسبوع    يورتشيتش: لن أدرب أي نادٍ في مصر سوى بيراميدز    ميرتس: تجميد الأصول الروسية خطوة معقدة.. والتقارير عن خطة سلام لأوكرانيا غير صحيحة    الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي: وحدة الكنيسة ليست خيارًا بل طاعة لنداء المسيح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«علي محمود».. حين ترسل المآذن سحرها
نشر في البديل يوم 27 - 05 - 2017

هدأة الليل تبلغ مداها، ومسجد الإمام الحسين يغص بالرواد الذين انسابوا من أحياء القاهرة العتيقة، فيما الأبصار تتعلق بالشيخ الضرير، الذي يرسل إنشاده آيات من السحر الحلال، تكاد تذهب العقول طربا، قبل أن يرفع أذان الفجر بطريقته الفريدة، موظفا طاقة صوتية وفنية ربما لم يبلغها أحد من أصحاب المواهب العبقرية.
الشيخ علي محمود، المقرئ، المنشد، المؤذن، الموسيقي، الملحن، أستاذ أعلام الطرب، وإمام دولة الإنشاد الديني في مصر والعالم الإسلامي، وصاحب أعظم أذان وصلنا مذ عرف الناس التسجيلات واقتنوا أجهزة الراديو.. كان بذاته مدرسة لتخريج الأعلام، وكان الالتحاق ببطانته شهادة ميلاد واعتماد، لا تمنح إلا للعباقرة، من أصحاب المواهب الفذة، والإمكانات الفنية الكبيرة.
في حارة درب الحجازي بحي الجمالية العريق، ولد علي محمود، عام ، 1878وترعرع في هذه الأجواء التي تحمل سحر الشرق، وجمال الشرق، وطرب الشرق.. لكن الأقدار ادخرت له حادثا أذهب بصره وهو مازال طفلا.. وفي مسجد أم الغلام حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ أبو هاشم الشبراوي، ثم جوده وتلقى قراءاته على يد الشيخ مبروك حسنين.. ثم انطلق يصدح بالآيات في المحافل والمساجد الكبرى، فذاع صيته، وطبقت شهرته الديار المصرية جميعا.
لكن التكوين الفني لا يكتمل إلا بدراسة الموسيقى وعلوم النغم، فتتلمذ الشاب الموهوب على الفنان الكبير الشيخ إبراهيم المغربي، ثم بلغ الذرى بالتتلمذ على إمام أئمة الموسيقى والغناء الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب، فخبر المقامات أصولا وفروعا، وأتقن ضروب الإيقاع، وأضاف علمه إلى موهبته الفذة، فأصبح معجزة نغمية ومفخرة فنية مصرية نادرة المثال.
هو أستاذ الأساتذة، فمن بطانته تخرج أعلام ونجوم، على رأسهم خليفته المقتدر الشيخ طه الفشني، وشيخ الملحنين الأكابر زكريا أحمد، وعملاق الإنشاد والطرب محمد الفيومي، والمنشد الأصيل عبد السميع بيومي.. وبنصائحه وتوجيهاته استرشد الكبار: محمد رفعت، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وأسمهان، وكامل يوسف البهتيمي.. وتغنى بألحانه كل مشايخ عصره، وكل من جاء بعده من أرباب الإنشاد الديني.
كان الشيخ علي محمود أعجوبة في أدائه، بارع متفنن، يصفه الأديب محمد فهمي عبد اللطيف بأنه "سيّدَ المنشدين على الذكر، والمغنين للموالد والمدائح النبوية، كأنه كان يجمع في أوتار صوته كل آلات الطرب.. فإذا شاء جرى به في نغمة العود أو الكمان، أو شدا به شدو الكروان.. وقد حباه الله لينا في الصوت، وامتدادا في النَّفَس، ولهذا كان يمسك بزمام النغم على هواه، ومايزال به صعودا وهبوطا وارتفاعا وانخفاضا، حتى يستوفي كل ما رسم أصحاب الفن من مقامات ونهايات، وكان صاحب ذوق فني مرهف، فعلى الرغم من أنه عاش ينشد ويغني على الطريقة القديمة المعروفة بطريقة "أولاد اليالي" فإنه استحدث كثيرا من النغمات والأصوات الرائعة، وترك منها ثروة ممتعة يمكن أن تكون معينا لأصحاب الجديد من أهل الفن، وكثيرا ما أخذ عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب واقتبس منه في بعض أغانيه".
السعد أقبل بابتسام.. أهلا ببدر التم روح الجمال.. أدر ذكر من أهوى.. بربك يا من جهلت الغرام.. أشرق فيومك ساطع بسام.. بالله يا باهي الشيم.. أجمل أماني ليلة القدر.. بعض من موشحات وقصائد على محمود التي وصلتنا تسجيلاتها، وتظهر سيادته وريادته وأستاذيته وعظمة فنه، وليس من مهتم بتاريخ الإنشاد الديني إلا وقد أخذ بالأداء المعجز لموشح يا نسيم الصبا تحمل سلامي، من مقام الحجاز، وتأنق الشيخ ورقته في عبارة ولعل الزمان يسمح يوما، وترنمه بألف "الزمان" وواو "يوما" التي ينطقها بضم الياء ويجعل من مدها آية من آيات الاقتدار، ويجعل من الموشح كله درسا في كيفية تطعيم الأداء الطربي الشرقي بمسحة غربية لا تخرج عن الأصول.
ويصف الباحث ياسر عبد الله، أداء الشيخ علي محمود، لهذا الموشح قائلا: "يبدأ فرشة الأداء من مقام الحجاز من درجة الجواب عند ياء النداء في "يا نسيم الصبا"، لترد عليه كمان سامي الشوا، بغناء نفس الكلمات كأنها البطانة، فهنا تكتفي الكمان الشرقي ذات الصوت الشبيه بالكمنجة الفارسيّة، بترديد مردات الشيخ، على عكس أداء القصائد المُلحّنة.. فالكمان أو القانون في تسجيلات أخرى له، ليس سوى خلفية موسيقيّة تؤدي المَرَدات، أو بالأحرى تلتقط من صوته اللحن ولا يلتقط هو من لحنها.. ثم يعود الشيخ إلى ترتيل "ثم بلغهمُ تحايا مُحبِ خلفوه ينوح نوح الحمام"، مع التركيز في النطق على مخارج ألفاظ بعينها يعرفها السامع الخبير بقراءة القرآن: فهو يظهر الحاءات المتتالية في "ينوح نوح الحمام" بقواعد الإظهار نفسها المتبعة على نحو "ولتصنع على عيني" في سورة طه، ثم يرتكز الصوت ارتكازا خفيفا في "لعل الزمان" الأولى، ليعاود التفريد بتكرارات مختلفة، وينوّع بها في بلوغ درجة الجواب وجواب الجواب مرة بين مد الألف في"الزمان" ومرة أخرى في واو "يومًا".. وتكرار المدين المتتالين نوع من تطريب مبهر لا يقدر عليه سوى صوت مقتدر مثل صوت الشيخ علي محمود".
لكن المؤكد أن هذه التسجيلات –على عظمتها- لا تمثل الحقيقة الكاملة لصوت وفن علي محمود، فهي قليلة جدا بالنسبة إلى رجل أحيا الليالي سنوات وسنوات، ورفع الأذان آلاف المرات، لم يصلنا منها إلا تسجيل واحد، لأذانه الشهير من مقام البياتي، والذي يجمع الموسيقيون على أنه الأهم والأصعب والأجمل بين ما عرفته دولة المشايخ من تسجيلات للأذان من كبار القراء والمنشدين.
تذكر بعض المصادر أن محمد عبد الوهاب لجا للشيخ أثناء تلحينه قصيدة "سهرت منه الليالي" ليقترح عليه طريقة للعودة من مقام السيكاة البلدي إلى النهاوند، ومن الصعب توثيق هذه المعلومة، لكن لا خلاف في أن اتساع الأفكار النغمية للشيخ جعلته مرجعا لأهل الفن، بسبب خبرته وتجديده.
لحن علي محمود لنفسه ولغيره، لكنه أنشد أيضا من ألحان الشيخ عبد الرحيم المسلوب، والشيخ درويش الحريري، وتلميذه النجيب زكريا أحمد.. وقد أشار عبد الوهاب إلى إنشاد محمود لموشح "إن ميلاد الرسول المصطفى" وهو توشيح لحنه الشيخ سيد درويش خصيصا للمنشد الكبير.
في روايته "خان الخليلي" كتب نجيب محفوظ: "اسمعوا القول الفصل: "أجمل ما تسمع الأذن سي عبده إذا غنى يا ليل، وعليّ محمود إذا أذّن الفجر، وأم كلثوم في إمتى الهوى، وما عدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب".. وفي كتابه الشهير "ألحان السماء" ينقل محمود السعدني قول المقرئ الكبير الشيخ محمد الصيفي: "إن هذا الرجل –يقصد سيد درويش- أحدث انقلابًا في فن الموسيقى، وهذا الرجل –يقصد علي محمود– أحدث انقلابًا آخر في فن الموشحات… وينقل عمار الشريعي عن الشيخ مصطفى إسماعيل قوله: إن أنفاس الشيخ علي محمود، إذا أنشد، كانت تشبه وابور السكة الحديد.. أما الكاتب الأديب عبد العزيز البشري، فكان صاحب ألطف وصف لفن المنشد الكبير إذ قال: "إن صوت الشيخ علي محمود من أسباب تعطيل حركة المرور في الفضاء، لأن الطير السارح في سماء الله لا يستطيع أن يتحرك إذا استمع إلى صوت الشيخ".. لقد كان علي محمود فنانا مطبوعا، ومثل مرحلة فارقة في تاريخ الإنشاد الديني، فانتهت إليه رئاسة هذا الميدان الصعب، وترك تراثا يمثل جزءا عزيزا من ذاكرة هذه الأمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.