اللافت في سير رواد التلاوة والإنشاد الديني أنهم كانوا على قدر واسع من الحيوية والحرص على الإلمام بكل مفردات القراءة والإنشاد من دراسة القامات الموسيقية ومعرفة علوم التجويد ومدارسه المختلفة، حتى أصبح كل رائد منهم أستاذًا لجيل عريض من أصحاب الفنون الصوتية سواء مقرئين أو حتى منشدين ومطربين، كما في حالة شيخنا الجليل الشيخ علي محمود طه رحمه الله. كان الشيخ علي محمود، مدرسة عريقة خرجت العباقرة في قراءة القرآن وفي فن الغناء، فقدمت الصوت الخاشع الشيخ محمد رفعت، والشيخ العبقري طه الفشني الذي كان عضواً في بطانة الشيخ علي محمود واستفاد من خبرته بشكل ظل واضحا عليه طيله حياته، وصار سيد فن الإنشاد بعد الشيخ علي محمود، والشيخ كامل يوسف البهتيمي القارئ والمنشد المعروف، الشيخ محمد الفيومي، وكان أحد أعضاء بطانته أيضا، والشيخ عبد السميع بيومي وكان كذلك أحد أعضاء بطانته. وفضلا عن هؤلاء العمالقة الذين يعد كل منهم مدرسة مستقلة قدم الشيخ علي محمود عمالقة في فن الغناء والتلحين لا يقلون أهمية عن العمالقة السابقين منهم على سبيل المثال شيخ الملحنين الشيخ زكريا أحمد الذي كان عضواً في بطانته، وتنبأ له الشيخ علي بمستقبل باهر في عالم الموسيقى ومد الله في عمر الشيخ علي حتى شاهد تلميذه رائد ملحني زمانه. كما قدم الموسيقار محمد عبد الوهاب وقد تعلم عليه الكثير من فنون الموسيقى، وقدم سيدة الغناء العربي أم كلثوم، والمطربة الظاهرة التي تعد ظاهرة فنية لم تتكرر المطربة أسمهان. ولد الشيخ علي محمود سنة 1878م بحارة درب الحجازي كفر الزغاري التابع لقسم الجمالية بحي الحسين بالقاهرة لأسرة على قدر من اليسر والثراء، وبعد مدة أصيب بحادث أودى ببصره كاملاً. والتحق بالكتاب وحفظ القرآن الكريم ودرس علومه صغيراً، حيث حفظ القرآن على يد الشيخ أبو هاشم الشبراوي بكتاب مسجد فاطمة أم الغلام بالجمالية، ثم جوده وأخذ قراءاته على الشيخ مبروك حسنين، ثم درس الفقه على الشيخ عبد القادر المزني، وفد ذاع صيته بعد ذلك قارئاً كبيراً وقرأ في مسجد الحسين فكان قارئه الأشهر، وعلا شأنه وصار حديث العامة والخاصة. بعد ذلك درس الموسيقى على يد الشيخ إبراهيم المغربي، وعرف ضروب التلحين والعزف وحفظ الموشحات، كما درسها أيضاً على شيخ أرباب المغاني محمد عبد الرحيم المسلوب وحيد عصره وفريد دهره في الموسيقي، كما أخذ تطورات الموسيقى على الشيخ عثمان الموصلي وهو تركي استفاد منه في الإطلاع على الموسيقى التركية وخصائصها.
بعد كل هذه الدراسات الثرية، إضافة إلى موهبته الذهبية صار الشيخ علي محمود أحد أشهر أعلام مصر قارئاً ومنشداً ومطرباً، وصار قارئ مسجد الإمام الحسين الأساسي، وبلغ من عبقريته أنه كان يؤذن للجمعة في الحسين كل أسبوع أذاناً على مقام موسيقي لا يكرره إلا بعد سنة، كما صار منشد مصر الأول الذي لا يعلى عليه في تطوير وابتكار الأساليب والأنغام والجوابات. وفي الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1946م رحل الشيخ علي محمود إلى جوار ربه تاركاً عدداً غير كثير من التسجيلات التي تعد تحفاً فنية رائعة، رحمه الله رحمة واسعة.