مع بدايات فصل الربيع من العام 1916، كانت مدينة بطرسبرج تستقبل مبعوثين خاصين من قبل حكومتي إنجلتراوفرنسا، الأول هو العقيد سير مارك سايكس البارون السادس من سيلدمير، وكان قد أتم لتوه عامه السابع والثلاثين، ورغم حداثة سنه إلا أن بريطانيا كانت تطمئن إلى قدراته الكبيرة كمستشار سياسي ودبلوماسي وعسكري مختص بشؤون الشرق الأوسط ومناطق سوريا الطبيعية، أما الثاني فهو فرانسوا ماري دينيس جورج بيكو السياسي والدبلوماسي الفرنسي المولود في أواخر1870، بالعاصمة الفرنسية باريس، والذي سيصير بعد ذلك أحد المسئولين عن التأسيس للانتداب الفرنسي في سورية، وكان مضيفهما وممثل الجانب الروسي هو سيرجي سازانوف وزير الخارجية المتهم من قبل كثيرين بالضلوع في تصعيد الأحداث التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى.. كان الاجتماع استكمالا للمفاوضات الرامية إلى التوصل إلى اتفاق بشأن تقسيم مناطق النفوذ بين الدول الثلاث، بعد أن أصبح باديا للعيان أن الإمبراطورية العثمانية قد أوشكت على الانهيار، بعد هزائمها المتلاحقة هي وألمانيا على عدة جبهات. "اتفاقية القاهرة السريّة" كان هذا الاسم هو اسم الاتفاقية حين بدأت المفاوضات بالقاهرة في خريف عام1915، وكان الجانب الروسي قد طالب بالمناطق شمال شرق تركيا، وفي المقابل تقتطع تركيا أجزاء من شمال سورية ترضية لأتاتورك، وقد أسفرت مفاوضات سان بطرسبرج عن تفاهم كامل حول مناطق النفوذ فيما يعرف بمنطقة الهلال الخصيب، وتم توقيع الاتفاقية في السادس عشر من مايو1916، على أن تبقى طي الكتمان ريثما تنضج الظروف المحيطة بها، وتهدأ المنطقة التي كانت تشهد أحداثا جساما، وكانت الاتفاقية مبنية على وثائق مطالبات تم تبادلها فيما بين الدول الثلاث. وبموجب المعاهدة، قسمت بريطانياوفرنسا المشرق العربي باستثناء شبه الجزيرة العربية إلى خمس مناطق، ثلاث مناطق ساحلية هي المنطقة الزرقاء (السواحل اللبنانية السورية وأعطيت لفرنسا)، الحمراء (السواحل العراقية من بغداد إلى البصرة وأعطيت لبريطانيا)، والسوداء (فلسطين)، ثم منطقتين داخليتين رمز لهما بحرفي (A) للمنطقة الداخلية السورية، و(B) للمنطقة الداخلية العراقية. سير مارك سايكس ومسيو جورج بيكو وبعيد اندلاع الثورة البلشفية في العام التالي، تم فضح أمر الاتفاقية، عندها سارعت بريطانيا بطمأنة العرب إلى أن المعاهدة أصبحت ملغاة بعد انسحاب روسيا من الحرب وانضمام العرب إلى جانب الحلفاء. كان النشاط الصهيوني قد تزايد في فلسطين بدأًً من العام1908، وعندما كشف لينين ورفاقه عن بنود الاتفاقية كاملة ثارت ثائرة قادة الحركة الصهيونية، إلا أن بريطانيا سارعت عبر وزارة خارجيتها إلى تقديم وعد صريح مكتوب وملزم يقطع بالتزام بريطانيا بمنح فلسطين لليهود، وهو ما عرف بوعد بلفور الذي جاء على شكل رسالة وقعها وزير الخارجية البريطاني السير آرثر بلفور في12 نوفمبر 1917 إلى اللورد روتشيلد وأعلن فيها تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. أرادت بريطانيا التملص سريعا مما التزمت به في الاتفاقية، بعد أن بدأت جيوشها في الاستيلاء على البلاد العربية البلد تلو الآخر، وبعد أن واصلت معاركها ضد القوات التركية المنهكة على نهر دجلة وبدأت بالزحف السريع شمالا، فاستولت على كوت العمارة في 25فبراير1917،قبل أن تدخل بغداد في 11 مارس، ثم الرمادي في 28سبتمبر،قبل أن تنجح في احتلال تكريت في 6 نوفمبر من نفس العام.. وفي 9 ديسمبر1917، دخلت القوات البريطانية بقيادة لورد اللمبي مدينة القدس بعد انتصارها على الجيش العثماني، وينسب إلى هذا الرجل القول المشهور "اليوم انتهت الحروب الصليبية" وتابعت القوات البريطانية تقدمها نحو دمشق التي أعلن انتهاء الحكم العثماني بها في أكتوبر 1918. بلفور ووعده المشئوم "بعد يومين من سقوط دمشق، تم تعيين الأمير فيصل بن الحسين حاكما على سوريا، وفقا لاتفاقية سايكس بيكو، ولكن الجنرال البريطاني أبلغه بأن الاتفاقية تنص على أن يكون لكل منطقة يفتحها جيش إحدى الدولتين حاكم تعينه القيادة العسكرية للأخيرة ومستشارون تعينهم الدولة الأخرى الموقعة على الاتفاقية، وبدأ فيصل يدرك أن الوعد الذي تلقاه هو ووالده عبر لورنس ومجموعة الارتباط البريطانية لن يكون تحقيقه سهلا.. وأدركت الحركة الصهيونية مبكرة نذر المصير الذي سوف يحيق بالوعد البريطاني للعرب، واتخذت التدابير اللازمة للحيلولة دون ضياع الوعد بدولة تخص يهود العالم، وكان قد عقد في 14 من أغسطس من العام 1917 المؤتمر الصهيوني الثامن في لاهاي بحضور أربعة مندوبين يمثلون اليهود في فلسطين، واتخذ المؤتمر قرارا يهدف إلى تسريع النشاط الاستيطاني، ولم يمض شهر واحد حتى جاء 18 يناير 1918 حين شكل دافيد بن غوريون وإسحق بن تسفي كتيبة ضمت 5000 رجل في الولاياتالمتحدة، ووصل قسم من المتطوعين إلى فلسطين وشاركوا في الحرب على قوات اللمبي، لمنع أي تغييرات قد تطرأ على الاتفاق الموقع من قبل وزير خارجية بريطانيا بلفور، وفي 18 ديسمبر1918، عقد مؤتمر يافا للمستوطنين اليهود، وحمل حاييم وايزمان مطالب المستوطنين إلى مؤتمر باريس للسلام". في صباح 7يناير1919، توجه فيصل بن الشريف حسين إلى باريس مغادرا العاصمة الإنجليزية، لحضور المؤتمر بعد أن أيقن أنه لا سبيل إلى إبعاد فرنسا عن سورية، بعد أن أُبلغ صراحة من قبل مسؤولين بريطانيين أن بريطانيا لن تخاصم فرنسا بشأن سورية، وكان إدوارد لورانس قد استطاع أن يرتب اجتماعا بين فيصل والصهيوني وايزمان في لندن أسفر عن توقيع اتفاقية بين الطرفين عرفت باسم اتفاقية فيصل- وايزمان، ومما جاء فيها "أن تسود النوايا الحسنة علاقات والتزامات الدولة العربية وفلسطين، وأن يحتفظ بوكالات عربية ويهودية في بلد كل منهما، وأن تحدد الحدود بين الدولتين بعد مؤتمر السلام من قبل لجنة يتفق على تعيينها الطرفان المتعاقدان، احترام الحرية الدينية ووضع الأماكن الإسلامية تحت رقابة المسلمين" لكن فيصل اشترط استقلال البلاد العربية أولا قبل الشروع في تنفيذ الاتفاقية! ورغم مرور أكثر من مئة عام على توقيع سايكس بيكو، وبرغم أن أمورا كثيرة في العالم قد تغيرت إلا أن حال التشرذم العربي الذي كان سببا مباشرا في الاتفاقية وتوابعها، مازال حاضرا بقوة، بل ومؤهلا لمزيد من التردي والانهيار، إيذانا بسايكس بيكو جديدة تجزّئ المجزّأ وتفتت المفتت، وتُعمِل مبضع القوى الدولية في الجسد الذي يقاوم الفناء منذ زمن بصعوبة بالغة.