المناطق العازلة، المناطق الآمنة، مناطق وقف من التصعيد، مناطق التهدئة، مناطق حظر الأعمال العدائية، مناطق حظر وتنسيق الطيران..إلخ. كل هذه المسميات في العامين الماضيين من عمر الأزمة السورية تعبر عن مسعى أطراف الأزمة محلياً أو إقليمياُ أو دولياُ لتوافق يهدف لتقنيين مناطق نفوذها أو تحييد نفوذ أطراف أخرى على المستوى الميداني، وهي حاجة تنشأ مع تغير موازين القوى ميدانياً، وعشية تسوية شاملة تُعقد محادثتها على موائد المفاوضات المختلفة، وفي الغرف الدبلوماسية والأمنية والعسكرية المغلقة. أي اختصاراً يسعى كل طرف فيما يخص المناطق الآمنة أن يشهرعن وجوده العسكري ونفوذه في مكان ما تحت دعاوي ودواعي مختلفة منها حماية المصالح والأمن القومي، أو حماية أقلية عرقية أو إثنية؛ بينما هي في واقع الأمر توافق متبادل حول مناطق النفوذ على مستوى مستقبلي مرتبط في جوهره بالمصالح الاستراتيجية لأطراف الصراع في سوريا. ومنذ بداية الأزمة السورية، وفيما يخص مناطق النفوذ لكل من الدول الإقليمية المحيطة بسوريا كانت إسرائيل تعمل بشكل مختلف عن باقي أطراف الأزمة السورية فيما يخص مناطق النفوذ المسيطر عليها من قبل مجموعات مسلحة موالية لهذا الطرف أو ذاك، وذلك لاعتبارات منها نقل السلاح من سوريا إلى لبنان والعكس، وتواجد حزب الله وإيران على خطوط التماس في الجولان والقنيطرة؛ وهو ما عالجته إسرائيل في السنوات الثلاث الأولى من الحرب في سوريا عبر تدعيم وتوفير الغطاء الجوي والنيراني واللوجيستي للجماعات الإرهابية وعلى رأسهم "جبهة النُصرة" في غرب وجنوب سوريا وخاصة في نقاط التماس في هضبة الجولان والقنيطرة، وذلك طبقاً لإستراتيجية وقتئذ مفادها عدم الاشتباك إسرائيل المباشر في الحرب في سوريا والاكتفاء بتدعيم تواجد الجماعات المسلحة على التخوم الحدودية كحائط صد أولى وجبهة متقدمة، ويستثنى من ذلك الأمر حالات نقل السلاح، نقاط التمركز العسكري للمقاومة المستحدثة في جبهة الجولان والقنيطرة. وهو الأمر الذي لم تنجح تل أبيب في تحييده أو بالحد الأدنى تقليصه لحدوده الدنيا، وذلك باعتراف المسؤولين الإسرائيليين، وعلى رأسهم نتنياهو وكبار مسئولي جيش الاحتلال الصهيوني طيلة العامين الماضيين. في العاميين الماضيين كان هناك متغيران كبيران هما التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة، والتدخل الروسي في سوريا؛ والمتغيران تعاملت معهما إسرائيل على أساسين: الأول الاستثمار والتوظيف من ناحية محاولات إلحاق المقاومة بسردية التنظيمات الإرهابية، وتبييض سُمعة التنظيمات الإرهابية مثل جبهة النصرة وإعادة إنتاجها في شكل "معارضة معتدلة" بالتعاون مع أطراف إقليمية مثل تركيا والسعودية وقطر، وهو الأمر الذي لم تحقق أيضاً إسرائيل فيه نجاحا ملحوظا، بل أن احتواء النُصرة من جانب تل أبيب ودعمها لهم قد أسفر عن قلقلة الوضع الأمني بالداخل الإسرائيلي فيما يخص مثلاً انتفاضة دروز فلسطينالمحتلة ضد رعاية الحكومة الإسرائيلية لعناصر النُصرة، خاصة بعد ارتكاب الجبهة جرائم بحق المدنيين الدروز في الجولان والسويداء والقنيطرة، وهو ما أعاد طرح خلقكيان "درزي" يُرحل إليه دروز المناطق السورية الخاضعة للجماعات الإرهابية، وبالتالي يتحقق هدف إسرائيل بخلق جيب داخل الأراضي السورية بقبول إقليمي ودولي بداعي حماية إثنية الدروز. الأساس الثاني الذي تعاملت من خلاله إسرائيل مع المتغيرين السابق ذكرهم هو اتباع نمط من التنسيق الأمني والعسكري مع الأطراف المعنية بالأزمة السورية مثل الأردن وقطر وتركيا، ومع روسيا ميدانياً في تنسيق حركة الطيران بين الجانبين، وهو ما أاخفض إلى حدوده الدنيا، والاستمرار في توفير الغطاء النيراني للجماعات المسلحة، وتدجين بندقية "داعش" التي اعتذرت مؤخراً لتل أبيب عن إطلاق بعض من عناصرها النار على نقطة لجيش الاحتلال في الجولان، وهو ما تُرجم عملياً باستمرار تل أبيب عند حدود استراتيجيتها سابقة الذكر أعلاه الخاصة بالحد من عمليات نقل الأسلحة واستهداف كوادر المقاومة في الجولان والقنيطرة، وهو ما لم يجنب إسرائيل الخطر الأكبر وهو وجود المقاومة وإيران على حدود فلسطينالمحتلة، ليس فقط على مستوى إنشاء ارتكازات عسكرية لهم في الجولان والقنيطرة ظهيرها الميداني العمق السوري واللبناني، ولكن خشية إسرائيل من فراغ ما بعد القضاء على داعش، حيث ستصبح الجغرافيا ما بين الحدود الإيرانية وحدود فلسطينالمحتلة مروراً بالعراق وسوريا ممر لوجيستي استراتيجي يخلو من عقبات تعطل حركة مرور الأسلحة والأفراد بكافة تدرجها الميداني نحو هضبة الجولان المحتلة. في هذا السياق، يرى المحلل السياسي والخبير بشئون الشرق الأوسط، الصحفي والمعلق العسكري الإسرائيلي إيهود يعاري، في مقال له في مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية "أن الهدف النهائي هو توسيع نطاق وصول إيران إلى هضبة الجولان بهدف تشديد الخناق على إسرائيل. ويعبّر الإيرانيون بشكلٍ علني عن اهتمامهم الكبير في فتح جبهة الجولان لوكلائهم، ويعمل ضباط رفيعو المستوى من «الحرس الثوري» حالياً في تلك المنطقة على إنشاء ميليشيا جديدة هي "فوج الجولان" المؤلفة جزئياً من فلسطينيين مقيمين في سوريا. ويقوم أحمد جبريل، القائد المخضرم ل «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة»، التي ترعاها إيران، بالدعوة إلى هذه الخطوة في مرتفعات الجولان، وترددت هذه الدعوة في وسائل الإعلام السورية الرسمية في أوقات مختلفة. ومن شأن هذا التكتيك أن يوسع خط المواجهة الحالي في لبنان بين «حزب الله» وإسرائيل وصولاً إلى نهر اليرموك حيث تلتقي الحدود السورية- الأردنية- الإسرائيلية. وقد بدأ بعض قادة الميليشيات العراقية التي ترعاها إيران، مثل "حركة النجباء"، بالتحدث علناً عن نيتهم في نقل قواتهم إلى جبهة الجولان". إذن في ظل مناخ من "المناطق العازلة" شمالاً وشرقاً خاصة مع عودة دوران عجلة التوافق والمفاوضات في أستانة، وقرب موعد معركة الرقة والتي من المتوقع أن تشهد تخطي للقوات العراقية والحشد الشعبي الحدود السورية من جهة صحراء الأنبار، فإن إسرائيل التي فضلت أن لا تصطدم مباشرة مع المقاومة وإيران في سوريا إلا في حدود دنيا عجزت حتى عن الإيفاء بسقف أهداف منخفض مثل منع نقل الأسلحة وتحييد جبهة الجولان، تجد نفسها اليوم خارج أي إطار للتسوية أو للتهدئة أو سباق ما بعد داعش ومناطق النفوذ "العازلة"، خاصة وأن الإجراءات الأخيرة في هذا السياق ومن ضمنها اتفاق أستانة الأخير الخاص ب"مناطق وقف التصعيد" يأتي دون دور واشنطن الضامن تقليدياً لمصلحة إسرائيل، التي في نفس الوقت لم تحقق نجاحاُ على مستوى التنسيق الأمني والعسكري مع موسكووعمان فيما يخص مستقبل الجنوب السوري على غرار مستقبل شمال سوريا و"مناطقه العازلة" المطروح على مائدة المفاوضات بين أنقرة وطهران وموسكو وبمراقبة وتواجد أميركي. وهنا تجد تل أبيب نفسها أمام الخيار الأصعب الذي أرادت تلافيه منذ بداية الأزمة السورية وهو ضرورة التدخل المباشر لضمان أمن "حدودها"، وهو الجدال الذي بدأ في الأروقة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية منذ بداية الأزمة السورية دون أن يحسم نظراً لأن حدوثه سيكون بمثابة مقامرة غير مأمونة العواقب.