بتقدم الجيش السوري وحلفائه نحو مدينة حلب السورية، أضحت رهانات الأطراف الدولية والإقليمية على بقاء مرتكز ميداني ذي قيمة بيد الجماعات المسلحة في سوريا، قبل الجلوس على مائدة مفاوضات الحل النهائي يحسِّن من موقف هذه الأطراف في عملية التفاوض، دربًا من الخيال، حيث قطعت عمليات الجيش السوري العسكرية الأخيرة الشريان الشمالي الرئيس لخط الدعم اللوجيستي الأخير للجماعات المسلحة، التي عانت منذ التدخل العسكري الروسي من تقلص في حجم هذا الدعم بفعل الغارات الروسية التي أغلقت الحدود السورية التركية أمام المسلحين بشكل شبه كامل. وانعكس أثر هذه الإنجازات الميدانية الأخيرة للجيش السوري وحلفائه على مواقف وتصريحات وإجراءات الأطراف الدولية والإقليمية على الجهة الأخرى، حيث انبرت كل من السعودية وتركيا تماشيًا مع تحالفهم القائم منذ أكثر من عام، في محاولات إيجاد بدائل سريعة وحاسمة لتكتيكاتهم السياسية والميدانية، وصلت إلى حد الإعلان عن نية التدخل العسكري المباشر في سوريا، سواء عن طريق «الأحلاف» الكثيرة التي دأبت السعودية على تشكيلها وقيادتها طيلة الفترة الماضية، أو عن طريق تلويح الحكومة التركية من جديد بضرورة التدخل العسكري لدواعٍ أقلها المنطقة العازلة في سوريا، أو إجهاض أي مخطط لوجود سياسي كردي معترف به في شمال سوريا وحصرًا في منطقة مثلث كوباني، حيث يجري منذ شهور التمهيد لعملية سياسية بإشراف أمريكي وغربي، الهدف منها إيجاد كيان كردي داعم لمصالح هذه الأطراف وأولها القضاء على داعش. وسط كل هذه التغيرات وردود الفعل المتسارعة جاء الموقف الإسرائيلي كمفارقة عن فزع من استعادة حلب في الشمال، لا المدن والقرى التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة في جنوبسوريا وشمال فلسطينالمحتلة، هذا الفزع عبَّر عنه الجنرال السابق ورئيس الدائرة الأمنية الأسبق في وزارة الدفاع الإسرائيلية، عاموس جلعاد بقوله: انتصار الأسد وحزب الله وإيران في حلب على المتمردين لا يعني إلَّا اقتراب الخطر من إسرائيل عشر خطوات، في إشارة إلى احتمالية تخفيف الضغط على الجبهة الشمالية في سوريا، ليركز من جديد على الجبهة الجنوبية وجبهة الجولان المحتل، وهو ما يعني لإسرائيل فقد الامتياز السهل الذي حصلت عليه في السنوات الأربعة الأخيرة بسيطرة الجماعات المسلحة على حدودها مع سوريا، والتي اتخذت في جبهة الجولان شكل الطوق الأمني الذي يعمل كخط دفاع واشتباك أول بين المقاومة في الجولان وجيش الاحتلال، بالإضافة إلى عامل آخر يكمن في استعادة النظام السوري السيطرة على الأراضي التي خرجت من تحت سيطرته في السنوات الماضية، وما لذلك من إجهاض مخططات المناطق العازلة التي رمت إليها تل أبيب منذ فترة، ونصحت بها الدوائر الأمنية والاستراتيجية حكومة نتنياهو في العمل على إيجادها سريعًا على أسس أثنية وعرقية «مثل مستوطنات للدروز في الجولان» التي من شأنها أن توفر عمقًا استراتيجيًّا إسرائيليًّا داخل سوريا. جدير بالذكر أن التوصيات الاستراتيجية التي قدمتها مؤخرًا مراكز التفكير والأبحاث الاستراتيجي للحكومة الإسرائيلية، مثل معهد أبحاث الأمن القومي ومركز هرتسليا، ذكرت فيما يخص الأزمة السورية أن أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث بالنسبة لتل أبيب هو انتصار المحور الراديكالي «سوريا، حزب الله، إيران» على الجماعات المسلحة ومن ثم توجيه هذا المحور قوته حصرًا ضد المصالح الإسرائيلية، سواء باستعادة حزب الله جهوزيته الكاملة، من وجهة نظرهم، بإيقاف تدخله في سوريا وإعادة حشد قواه بالكامل ضد إسرائيل، أو فيما يتعلق بتمكن الحزب ومن ورائه إيران من خلق نقاط ارتكاز وفتح جبهات جديدة على الحدود الشمالية والشرقيةلفلسطينالمحتلة. وهنا يرى المحلل العسكري في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية في مقال له قبل أيام أن وصول إيران عن طريق حزب الله إلى المتوسط يعني خسارة استراتيجية لإسرائيل بنفس ذات الدرجة لبلاد مثل تركيا والسعودية، التي ترى في التقدم العسكري الأخير في الشمال والجنوب خسارة فادحة لهم لم تحدث منذ بداية الحرب في سوريا. وذلك في إشارة إلى ترابط المصالح واتفاق الرؤى الذي يجمع كل من الرياضوأنقرة وتل أبيب فيما يتعلق بسوريا، خاصة أن كلًّا من السعودية وتركيا قد شرعتا منذ العام الماضي لتوحيد جهودهما السياسية، فيما يتعلق بسوريا، فكان «جيش الفتح» المكون من «جبهة النُصرة» وعدد من الفصائل الإرهابية الأخرى، نتاجًا ميدانيًّا لهذا الاستراتيجية المشتركة للرياض وأنقرة، التي انتهت بالاستيلاء على مدينة إدلب الاستراتيجية، التي باتت الآن الشريان الأخير الذي يصل هذه الجماعات بالحدود التركية شمالًا. في السياق ذاته، رأى المراسل والمحلل العسكري في راديو «صوت إسرائيل» يوسي فيرتر، أن ما يحدث في حلب شمالًا من انهيار سريع وتراجع للجماعات المسلحة يشي بإجهاض ما كانت تسعى إليه أنقرة منذ فترة بإنشاء منطقة آمنة عازلة في شمال سوريا، الهدف منها المزيد من الضغط على النظام السوري حال انتزاع اعتراف دولي بهذه المنطقة، وهو ما يراه فيرتر نصرًا تكتيكيًّا يمهد لإنجاز استراتيجي لأردوغان، يكمن في إجهاض أي محاولة بإيجاد منطقة حكم ذاتي أو كيان جغرافي مستقل لأكراد سوريا، وما سيجره من تداعيات على الداخل التركي الذي يعاني لدحر الحلم الكردي الذي يمثله حزب العمال الكردستاني ومليشياته المنتشره في سورياوتركيا والعراق وإيران، والذي من بينها وأهمها حاليًا بواقع انتصاره على داعش العام الماضي وحدات الحماية الشعبية «واي بي جي» التي أصبحت أيقونة للتحرر ومحاربة داعش بعد معارك كوباني «..» هذا الأمر من الممكن أن يتكرر مع إسرائيل جنوبًا، حيث تسعى تل أبيب إلى أن تركز مجهودها في إبطاء تقدم الجيش السوري جنوبًا بالتعاون مع حلفائها، عن طريق غرفة العمليات المشتركة والدعم الاستخباراتي، لكن يبدو أن هذا لم يعد صالحًا بعد التطورات الأخيرة، التي قلبت المعادلة لصالح الأسد وحزب الله، وبالتالي فإنه يمكن القول إن مصير هذه الجماعات المسلحة في الجنوب لن يختلف عن نظيراتها في الشمال، بل أن الأخيرة كانت لديها من القوة والدعم ما يفوق مثيلتها في الجنوب، والحال كما رأينا من انهيار سريع. كخلاصة عامة، تراقب تل أبيب جبهة الشمال في سوريا باهتمام ربما يفوق الجبهة الجنوبية الملاصقة لحدودها، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على استشراف مستقبل الجبهة الجنوبية القريب، والذي بناء على دلالات الواقع الميداني لن يختلف عن الجبهة الشمالية، بالإضافة إلى أن التطورات هناك واقتراب استعادة مدينة حلب اعتبرت صحيفة واشنطن تايمز الأميركية استعادتها من أيدي المسلحين يعني انتهاء الحرب في سوريا ستكون له ردود فعل مهمة على المستويين الميداني والسياسي، سواء فيما يتعلق بإعادة التوازن العسكري للجيش السوري وحلفائه بين الجبهتين والتركيز على الجبهة الجنوبية بعد حسم الشمالية، وهو يترجم في تل أبيب بوصول المقاومة وإيران إلى الحدود الشرقية والشمالية وربما نفوذ على البحر المتوسط، أو فيما يتعلق بسيناريوهات مستقبلية قد أعدتها إسرائيل سلفًا، جوهرها مناطق آمنة معترف بها دوليًّا أو بأمر الواقع مماثلة لنظيرتها التي طالبت بها تركيا، وهي السيناريوهات التي أجهضت بفعل الإنجازات العسكرية الأخيرة للجيش السوري. وبناء على هذه التطورات الأخيرة لن يكون مستبعدًا أن تطل إسرائيل برأسها في سوريا بالتدخل العسكري المباشر، وهو الأمر الذي كان مستبعدًا وغير مُفضل من جانب الساسة والعسكريين في تل أبيب طيلة سنوات الأزمة السورية الخمس، لكن على ضوء هذه التطورات قد يكون الحل الآمن بالنسبة لإسرائيل هو إيجاد ذريعة تدخل على الأرض السورية، تؤمن حاجتها الاستراتيجية في إبقاء الجبهة الجنوبية على حالها، أو بالحد الأدنى إبعاد المقاومة عن حدودها الشمالية الملاصقة لسوريا.