لطالما كانت جبهة الشمال السوري تحظى بأهمية كبيرة لدى المعنيين في تل أبيب من الساسة والخبراء العسكريين والأمنيين، فعلى عكس المفترض بأن تكون معارك الشمال السوري في ذيل قائمة الأولويات الإسرائيلية لحساب جبهة الجنوب والجولان المحتلة الملصقتان لحدود فلسطينالمحتلة، والمشتبكة مع حدود لبنان ومناطق تواجد ونفوذ حزب الله، كانت المعارك في الشمال على أهمية إن لم تكن تفوق في الآونة الأخيرة أياً من جبهات القتال في الساحة السورية. هذا الاهتمام الإسرائيلي لم يكن لدواعي الترقب والمتابعة لما ستؤول إليه الأحداث في سوريا ومدى توافقها مع مصلحة تل أبيب، ولكنه لدواعي إستراتيجية متعلقة بالحسابات السياسية الداخلية والخارجية حسب تطورات الأحداث هناك، وبالتالي تكيّف القدرة العسكرية والأمنية حسب أولويات الفترة الراهنة، وهو ما يعبر عنه الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، ومدير «معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي» حالياً، الجنرال عاموس يادلين، بقوله في مقدمة دراسة موجهة لصناع القرار في إسرائيل صادرة عن المعهد نفسه في يوليو 2012 "أن التداعيات المستقبلية للحرب في سوريا ليست سوى تحدي ديناميكي لإسرائيل وأمنها (..) فأطراف الحرب هناك لا يمكن التعويل على خسارتها أو فوزها كفائدة تعود على إسرائيل، طالما لم يكن لدينا تصور كامل ومرن في الوقت نفسه على مدى متوسط وبعيد لمجريات المعركة هناك، فالحرب في سوريا لا تعني بالنسبة لنا الجولان فقط، ولا منع تمرير أسلحة إلى حزب الله، ولكن تعني التركيز على كافة الأطراف والجبهات داخليا وخارجياً واستخلاص فرص استراتيجية من تطورات الحرب على مدار السنوات القادمة، أو على الأقل التأهب الدائم لكافة الاحتمالات وتحضير الجبهة الداخلية والجيش على نحو ديناميكي لمواجهة أي تبدل في غير صالحنا". الدراسة السابقة كانت قد توقعت خمسة سيناريوهات لمسار للأزمة الحرب في سوريا وهي كالتالي: "أ-سقوط نظام الأسد والنظام الحكومي وتتفكك بنية الدولة لكانتونات مستقلة، وحرب أهلية لا هوادة فيها بين الأثنيات وتطهير عرقي ونزوح السكان لمناطق تجمعاتهم العرقية. ب-سيطرة جزئية لنظام بشار على محور طولي يشمل حلب ودمشق وحمص وكذلك القطاع الساحلي وفقدان السيطرة على باقي سوريا التي حينها ستظل تعمل كدولة بشكل جزئي. ج- بروز نظام دولة مختلفة داخل سوريا. حكومة مختلفة تقودها قوى المعارضة متحدة قي عملها لتحقيق الاستقرار وخلق توازن بين مختلف المجموعات الأثنية. د- الفوضى وسقوط نظام الأسد وعدم وجود حكومة مركزية فاعلة لتصبح سوريا ساحة معركة لقوى التطرف بدعم من الأطراف الفاعلة في الخارج الذين يتنافسون مع بعضهم البعض:إيران والسعودية ودول الخليج وتركيا والأكراد وروسيا والولايات المتحدة ..إلخ وتصير سوريا مركزاً لجذب القوى المتطرفة من الخارج وتتطور الحرب بالوكالة.ه -تحول دراماتيكي في مسار الأحداث يعقبه عمليه عسكرية خارجية تطيح بالأسد وتبدأ عملية طويلة بعدها لإنشاء نظام جديد وعملية مصالحة وإصلاحات ديمقراطية". وغني عن القول أن أياً من السيناريوهات السابقة قد تحقق ولو بنسبة معتبرة في سوريا، ولكن هذا لم ينفي أن الاستجابة الإسرائيلية كانت ديناميكية ومرنة في استيعاب المتغيرات الضخمة التي طرأت على الملف السوري سواء ميدانياً أو سياسياً، وكذا الحال بالنسبة للأطراف الإقليمية الفاعلة والدول الكبرى في المنطقة والتغيرات التي حدثت في سياساتها حيال الملف السوري أو حتى غيره من الملفات والتي ألقت بظلالها على الأزمة السورية. فعلى سبيل المثال جاء التدخل الروسي العام الماضي كمعادل قلب حسابات الميدان في سوريا عامة وفي جبهة الشمال خاصة، وهو ما استدعى التفاف إسرائيلي سريع لضبط توافق مع موسكو حول محاول وسقف ونتائج التدخل الروسي. هذا التوافق كانت محصلته العامة طمأنة روسية لإسرائيل فيما يتعلق بمدى الضربات الجوية الروسية جنوباً في سوريا وتفاهم حول موقع الجولان المحتل وتخومه في العمليات البرية. ومنذ هذا التفاهم الروسي – الإسرائيلي في العام الماضي لم يكن يشغل المعنيين في تل أبيب على اختلاف تخصصاتهم إلا جبهة الشمال السوري، التي هي بالنظر إليها بأكثر من زاوية حاسمه وهامة ومؤثرة على مسار الحرب كلها، فعلى سبيل المثال جاء تركيز الضربات السورية-الروسية الجوية في الشمال إلى إغلاق الحدود الشمالية مع تركيا ومنع تدفق مزيد من المقاتلين والأسلحة وتحديداً منذ مطلع العام الجاري، لتتبقى مدينة حلب كارتكاز استراتيجي أخير لهذه الجماعات في الشمال السوري. وهذا ما تُرجم في إسرائيل إلى معادلة اختصارها أن حسم الجبهة الشمالية لصالح الدولة السورية وحلفائها يعني استدارة حتمية نحو الجبهة الجنوبية والجولان، وهو ما يلزمه استعداد إسرائيلي لكل الاحتمالات التي تذهب إلى هو ما أبعد من دعم مباشر للجماعات المسلحة على غرار ما حدث ويحدث في جبهة الجولان؛ بل أن محللين وعسكريين إسرائيليين تحدثوا صراحة بأن احتمالية التدخل المباشر في سوريا جنوباً سواء بشكل منفرد أو بتنسيق مع دول إقليمية وبغطاء أميركي غربي يتوقف على ما ستؤول إليه نتائج معارك الجبهة الشمالية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر قال الجنرال السابق ورئيس الدائرة الأمنية الأسبق في وزارة الدفاع الإسرائيلية، عاموس جلعاد: "انتصار الأسد وحزب الله وإيران في حلب على المتمردين لا يعني إلَّا اقتراب الخطر من إسرائيل عشر خطوات". وذلك في معرض تحليل له عن التطورات الأمنية والعسكرية في سوريا في مداخلة له في حلقة نقاشية عقدها مركز «هرتسليا متعدد المجالات» العام الماضية كان محورها التطورات الميدانية في سوريا، واحتمالية تخفيف الضغط على الجبهة الشمالية فيها، ليُركز من جديد على الجبهة الجنوبية وجبهة الجولان المحتل. وهو ما يعني لإسرائيل فقد امتياز سهل حصلت عليه في السنوات الخمس الأخيرة، وهو سيطرة الجماعات المسلحة على حدودها مع سوريا، والتي اتخذت في جبهة الجولان شكل الطوق الأمني الذي يعمل كخط دفاع واشتباك أول بين المقاومة في الجولان وجيش الاحتلال، بالإضافة إلى عامل آخر يكمن في استعادة النظام السوري السيطرة على الأراضي التي خرجت من تحت سيطرته في السنوات الماضية، وما لذلك من إجهاض مخططات المناطق العازلة التي رمت إليها تل أبيب منذ فترة، ونصحت بها الدوائر الأمنية والاستراتيجية حكومة نتنياهو في العمل على إيجادها سريعًا على أسس أثنية وعرقية مثل مستوطنات للدروز في الجولان التي من شأنها أن توفر عمقًا استراتيجيًّا إسرائيليًّا داخل سوريا. وفي السياق نفسه حذر وزير الشئون الاستراتيجية والاستخبارات سابقاً، ووزير التنمية والموارد المائية حاليا، يوفال شتاينتس، في تصريحات له في فبراير الماضي عن معارك الشمال وخاصة معركة حلب بالقول: "انتصار الأسد شمالاً يعني تغيير في الميزان الاستراتيجي، ويعني أيضاً أنه أصبح لنا حدوداً مع إيران في الشمال والشرق (..) وهذا لا يغير فقط مسار الحرب وتداعياتها في سوريا، ولكن أيضاً شكل السياسات في المنطقة، وهو خطر مشترك يجب أن يوضح لحلفائنا في المنطقة والولايات المتحدة". الأن، ومع قرب حسم معركة حلب لصالح الدولة السورية وحلفائها، فإنه من نافلة القول أن التقديرات الاستراتيجية الإسرائيلية ستؤخذ في اعتبارها تطورات الأيام الأخيرة وما ستؤول إليه في الأيام القادمة، ولكن ضمن خطوط عريضة وسقف لا يخرج عن التوصيات الاستراتيجية التي قدمتها مؤخرًا مراكز التفكير والأبحاث الاستراتيجي للحكومة الإسرائيلية، مثل «معهد أبحاث الأمن القومي» ومركز «هرتسليا»، ذكرت فيما يخص الأزمة السورية أن أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث بالنسبة لتل أبيب هو انتصار المحور الراديكالي -سوريا، حزب الله، إيران- على الجماعات المسلحة ومن ثم توجيه هذا المحور قوته حصرًا ضد المصالح الإسرائيلية، سواء باستعادة حزب الله جهوزيته الكاملة -من وجهة نظرهم يعني بإيقاف تدخله في سوريا وإعادة حشد قواه بالكامل ضد إسرائيل- أو فيما يتعلق بتمكن الحزب ومن ورائه إيران من خلق نقاط ارتكاز وفتح جبهات جديدة على الحدود الشمالية والشرقيةلفلسطينالمحتلة بما فيها جبهة الجولان، وهو ما أكدته صحيفة «هآرتس» قبل أيام بالقول أن "انتصار الجيش السوري والسيطرة على مدينة حلب لن يُنزلا ضربة معنوية فقط بالجماعات المسلحة، بل سيوفران أيضا له السيطرة الحيوية على سلسلة من المسارات والمفارق التي ستسمح له بالتقدم السريع باتجاه مناطق أخرى في شمال وشرق البلاد(..) وأن يؤدي إلى توسيع التدخل العسكري الروسي في محاولة لكسر هذه الجماعات". وكخلاصة عامة، فإن مراقبة تل أبيب لجبهة الشمال في سوريا ربما تفوق الجبهة الجنوبية الملاصقة لحدودها من حيث الاهتمام والأولوية، وتداعيات ذلك الاقليمية واستخلاص فرص التعاون بين تل أبيب ودول في المنطقة إزاء المتغير الميداني الأخير في سوريا شمالاً، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على استشراف مستقبل الجبهة الجنوبية القريب، والذي بناء على دلالات الواقع الميداني لن يختلف عن الجبهة الشمالية، بالإضافة إلى أن التطورات هناك واقتراب استعادة مدينة حلب اعتبرت صحيفة واشنطن تايمز الأميركية استعادتها من أيدي المسلحين يعني انتهاء الحرب في سوريا ستكون له ردود فعل مهمة على المستويين الميداني والسياسي، سواء فيما يتعلق بإعادة التوازن العسكري للجيش السوري وحلفائه بين الجبهتين والتركيز على الجبهة الجنوبية بعد حسم الشمالية، وهو يترجم في تل أبيب بوصول المقاومة وإيران إلى الحدود الشرقية والشمالية وربما نفوذ على البحر المتوسط، أو فيما يتعلق بسيناريوهات مستقبلية قد أعدتها إسرائيل سلفًا، جوهرها مناطق آمنة معترف بها دوليًّا أو بأمر الواقع مماثلة لنظيرتها التي طالبت بها تركيا، وهي السيناريوهات التي أجهضت بفعل الإنجازات العسكرية الأخيرة للجيش السوري. وبناء على ما سبق فإنه ليس من المستبعد أن تطل إسرائيل برأسها في سوريا بالتدخل العسكري المباشر، وهو الأمر الذي كان مستبعدًا وغير مُفضل من جانب الساسة والعسكريين في تل أبيب طيلة سنوات الأزمة السورية الخمس، لكن على ضوء هذه التطورات قد يكون الحل الآمن بالنسبة لإسرائيل هو إيجاد ذريعة تدخل على الأرض السورية، تؤمن حاجتها الاستراتيجية في إبقاء الجبهة الجنوبية على حالها، أو بالحد الأدنى إبعاد المقاومة عن حدود فلسطينالمحتلة الشمالية والشرقية الملاصقة لسوريا، ولكن هذا كله مرهون بحسم يلوح في الأفق لمعركة حلب وعلى غير ما ترجوه إسرائيل.