كانت السياسية الخارجية المصرية طوال تاريخها واقفة على كفتي ميزان لرؤية يرسمها رئيس الجمهورية ويعاونه فيها وزير الخارجية، لبلورة الرؤى والأفكار الدبلوماسية بشكل يليق مع عراقة وزارة الخارجية. عبد الناصر والدبلوماسية مع الأيام الأولى لثورة يوليو، برز نجم الدكتور محمود فوزي، من خلال بصماته الواضحة في توقيع معاهدة الجلاء، وهو ما جعل الرئيس جمال عبد الناصر يعتمد عليه في الاستشارات الدبلوماسية وفي رسم خطة جديدة لعلاقات مصر الخارجية مع العالم. فوزي، الذي وصفه عدد من الدبلوماسيين بأنه "عميد الدبلوماسية المصرية"، قال عنه الكاتب الصفي حسين هيكل، في كتابه ملفات السويس، إن عبد الناصر لم يبدأ مفاوضات الجلاء مع الإنجليز قبل أن يعين الدكتور فوزي، سفيراً لمصر في لندن، كي يتابع الأوضاع الدبلوماسية هناك، وما هي إلا أسابيع من تعيينه سفيرا حتى عينه عبد الناصر وزيرا للخارجية لأنه وجد أنه يحتاج إليه بجانبه في القاهرة. كان لمحمود فوزي، سلطة في اتخاذ قرارات وبسبب ذكائه الدبلوماسي كان يُجيد التعامل مع مؤسسة الرئاسة ويطرح أفكاره كي يسهم في رسم ملامح السياسة الخارجية المصرية آنذاك، حتى أصبح له دور مؤثر في السياسة المصرية على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتعامل بحنكة سياسية مع المجتمع الدولي، إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. أسهم فوزي في وضع مبادئ حركة عدم الانحياز، وفي تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، وقال عنه السفير عبدالرؤوف الريدي، إنه كان رئيسًا للدبلوماسية المصرية إلا أن ذلك لا يعنى أنه كان يضع سياسة مصر الخارجية، فالسياسة الخارجية فى النظام الرئاسى هى سياسة الرئيس وإن كان وزير الخارجية هو مستشاره الأول فالمسؤولية فى النهاية تقع على الرئيس، وكان فوزي واسع الاطلاع، قارئا في كل المجالات، أديبا فى كتاباته سواء بالعربية أو بالإنجليزية، وكان أنيقا في ملبسه وفي حديثه ويختار كلماته بعناية فائقة، وكان وجهه بشوشا دائمأ، وكان مفاوضا من الطراز الأول. كان فوزي مؤمنا بالقومية العربية وبدور مصر في حركات التحرر الوطني حتى من قبل أن تكون هذه هي السياسة التي تسير عليها مصر خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فهو صاحب الخطوة الشهيرة في انتقاد شاه إيران السابق عندما كان الأخير داعمًا لإسرائيل وقال نصا "لقد شاه وجه الشاه وآن لشعب إيران أن يضحي بشاه". السادات خلال فترة حكمه، حاول الرئيس الراحل أنور السادت أن يلغي ما قام به سلفه الرئيس عبد الناصر وهو التحالف مع روسيا، واختلق مسمى آخر كعنوان للسياسية الخارجية المصرية بشكلها الجديد، أسماه وقتها "انفتاح"، لكن شهورا قليلة مرت على إطلاق المسمى كانت كفيلة بأن تظهر معنى آخر للكلمة وهو ما عبر عنه البعض بال"انبطاح" والتبعية شبه كاملة للولايات المتحدةالأمريكية، ومن ورائها إسرائيل، بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد. في هذه الفترة كانت وزارة الخارجية لا تزال تتحرك بتأثير أفكار جمال عبد الناصر، من خلال دبلوماسيين أدركو أن السلام مع إسرائيل سيحجم دور مصر في كل المجالات، وكانت لدى وزير الخارجية الشجاعة كي يعارض رئيس الدولة، فعندما قرر السادات زيارة إسرائيل في العام 1977، اعترض إسماعيل فهمي، وزير الخارجية في ذلك الوقت، وقدم استقالته، وقال "أعتقد أن هذا سيضر بالأمن القومي المصري، وسيضر علاقتنا مع الدول العربية الأخرى، وسيدمر قيادتنا للعالم العربي". تلك المعاهدة دفعت وزيرا آخر للخارجية إلى الاستقالة وهو محمد إبراهيم كامل، الذي رافق السادات خلال توقيع معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، وقدم استقالته وقت مباحثات المعاهدة بسبب حجم التنازلات التي قدمها السادات لإسرائيل، وكتب في مذكراته أن "ما قبل به السادات بعيد جدا عن السلام العادل"، وانتقد كل اتفاقات كامب ديفد لكونها لم تشر صراحة إلى انسحاب إسرائيلي من قطاع غزة والضفة الغربية ولعدم تضمينها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. مبارك وقت حكم مبارك، كان التطبيع ومحاولات تفعيل معاهدة كامب ديفيد سارية، وبدأت السياسة الخارجية تقترب من أمريكا أكثر فأكثر، حيث لمعت عينا مبارك على "العولمة"، وما وراءها من مكاسب، وترك انفتاح السادات الذي وصفه الكاتب الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين، بأنه "انفتاح سداح مداح"، واتجه إلى العولمة بفتح الباب على مصراعيه أمام أمريكا كي تقود الشرق الأوسط من خلال مصر. برز ذلك بشكل كبير في حرب الخليج الأولى والثانية، وما تبعها من مواءمات سياسية وصفقات تجارية وعسكرية، كانت فترة التسعينات شاهدة عليها، في الوقت التي أهملت السياسة الخارجية فيها أهم قضية بالنسلة لها وهي القضية الفلسطينية. وبينما كان مبارك يوائم علاقاته مع إسرائيل كي ترضى عنه أمريكا، ظهر على الساحة عمرو موسى، وزيرا للخارجية، وقام بدور وصفه عدد كبير من الدبلوماسيين بأنه عودة لمدرسة محمود فوزي، في فن إدارة الأزمات، فقد تولى منصب وزير خارجية مصر منذ عام 1991 وحتى 2001، وكان عداؤه واضحا لإسرائيل. طالب موسى، إسرائيل بتنفيذ القرار الأممي رقم 242 وعودة القدس الشرقيّة للفلسطينيّين، وهاجم إقامة المستوطنات الإسرائيليّة على الأراضي الفلسطينيّة، واعتبرها غير مشروعة، وهاجم أرئيل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بسبب العنف المفرط ضدّ الفلسطينيّين. وهاجم بيريز وقال لم نسمع من بيريز احتجاجا على القصف والحصار واستئناف النشاط الاستيطاني المستمر، وهاجم إسرائيل في حرب قانا حينما غزت لبنان وقتلت 100 شهيد. ثورة يناير بعد ثورة يناير انتعشت الآمال بعودة دور مصر الريادي في المنطقة من خلال سياسة خارجية سليمة تُعلي مبدأ القومية العربية وتساند القضية الفلسطينة تحديدا، في ظل أزمات طرأت على وزارة الخارجية نفسها في عام 2011، وبينما كان وزيرها في ذلك الوقت الدكتور نبيل العربي، هو المُتحكم فعليا في رسم السياسة الخارجية المصرية أنذاك. بدأ العربي، بداية تؤكد مبادئ ثورة 25 يناير التي رسمتها للسياسة الخارجية، مستعيدة لدور مصر الإقليمي ودورها كحاضنة للأمة العربية، حيث ساهم في نجاح المصالحة الفلسطينية بين شقيها فتح وحماس، بعد شقاق دام لأربعة سنوات، وأجرى اتصالات قوية مع دول حوض النيل لحل أزمة مياه النيل، والتي حققت نتائج إيجابية وقتها، وحل أزمة المصريين العالقين في تونس والذين نزحوا هربًا من عمليات القتل التي ترتكبها كتائب القذافي، وحل أزمة المهندس المصري المحتجز في سوريا بتهمة الجاسوسية والإفراج عنه. وبعد توليه منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، كانت توجهات الإخوان المسلمين تعاني من تناقض، فمن ناحية يريدون الحفاظ على علاقاتهم الطيبة مع حركة المقاومة الإسلامية حماس، ومن ناحية أخرى علاقاتهم بالإدارة الأمريكية كانت في ترابط وثيق، وهذه العلاقة جعلتهم يلجأون للمواءمة تجاه إسرائيل. وجمعت زيارات بين أطراف من الإخوان مع السفيرة الأمريكية آن باترسون في القاهرة، كما أن زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية سابقًا هيلاري كلينتون، للقاء الرئيس المعزول محمد مرسي، كانت تهدف إلى طمأنة الجانب الإسرائيلي بالتزام مصر تحت قيادة مرسي، بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل. وبعد ثورة 30 يونيو، حاول الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يُطبق فكرة "انفتاح السادات"، ممزوجة "بعولمة مبارك"، على خليط من "قيادة عبد الناصر"، مع "مواءمات مُرسي" ونسى أن لكل عصر أفكاره التي تتناسب مع ظروفه الاجتماعية ومتطلباته الدولية، وهو المزج الذي ترجمته كلمة وزير الخارجية سامح شكرى، بقوله إن مصر ليست دولة ريادة ولا تسعى لأن تقود أحدا.