تقف العلاقات المصرية الأميركية عند نقطة مفصلية تتجاوز الأمنيات والرغبات والجدل الدائر حول الفارق بين ترامب ومنافسته الخاسرة، تجاه مختلف القضايا التي تقع في صلب العلاقة بين البلدين على اختلاف حجمهما وتأثيرهما. فواشنطن تحت إدارة ترامب يبدو أنها حتى كتابة هذه السطور لم تبلور رؤية تختلف كثيراً عن رؤية الإدارة السابقة من حيث تخفيض التواجد والتدخل الأميركي المباشر في المنطقة لانتفاء الحاجة أو التكلفة المرتفعة. والاختلاف شبه الوحيد عن سياسات أوباما الخارجية عن خلفه تكمن في نقطة واحدة وهي فكرة الإدارة غير المباشرة،غير المُكلفة وليس الفصل الانسحاب المباشر، ويتحقق ذلك حسب رؤية إدارة ترامب عن طريق اتفاق بين حلفاء الولاياتالمتحدة التقليديين على أجندة مشتركة تتوافق مع أولويات السياسات الخارجية لواشنطن، نظير إشراف الأخيرة وإعادة هيكلة دعمها لهؤلاء الشركاء من خلال أُطر ومنهجيات جديدة تختلف عما كانت في حالة الهيمنة والتدخل المباشر. هذا الأمر يخالف ما يطمح إليه الشركاء التقليديون لواشنطن في المنطقة: السعودية ومصر والإمارات والأردن، الذين اعتادوا لعقود على وجود مظلة رعاية أميركية مباشرة تشمل الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري. فقامت السياسة الخارجية لجُلهم في العقود الثلاث الأخيرة على لعب دور إقليمي في إطار خارطة المصالح الأميركية ولا تتعارض أو تتباين معها. وهو ما تغير بالنسبة للقاهرة في السنوات الأخيرة بداية من 2011، فمن صعود جماعة الإخوان إلى الإطاحة بهم خلف ذلك تباينات بين القاهرةوواشنطن لم يكن هناك فرصة لتسويتها على قاعدة ما قبل 2011 إلا برحيل الإدارة الأميركية السابقة، وتزايد فرص هذا من وجهة نظر القاهرة بقدوم رئيس أميركي جديد اتضح من تصريحاته إبان حملته الانتخابية أن لديه رؤية مختلفة عن سابقة، وتشكل فرصة لضبط التباينات بين البلدين. إلا أنه حتى كتابة هذه السطور لم توضح الإدارة الأميركية الجديدة بشكل قاطع رؤيتها تجاه الشرق الأوسط، فبخلاف أجندة أولويات تندرج تحت مبدأ عدم الانخراط العسكري المباشر، وإدارة غير مباشرة عن طريق "شركاءها" وخطوط عريضة حيال معالجة فوضى الربيع العربي من داعش وأخواته للتفرغ لمجابهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وجدت القاهرة أن أولويات الإدارة الجديدة غير متناسقة مع ما طمحت إليه في استعادة شكل العلاقات المصرية-الأميركية لما كانت عليه قبل 2011، وخاصة سنوات التسعينيات الذهبية التي شكل فيها مصر مبارك زاوية أساسية في "عملية السلام" برعاية أميركية، ووفرت لواشنطن شريك إقليمي متقدم عن باقي شركاء الولاياتالمتحدة على أكثر من مستوى. وبخلاف السابق فإن التباينات بين شركاء الولاياتالمتحدة، مثل التي بين مصر والسعودية حالياً، صعبت من إجاد مسار سلس للتعاطي الموحد مع الإدارة الأميركية الجديدة وفق أجندة أولويات "محور الاعتدال" القديم/الجديد، فمن ناحية تريد القاهرة إبعاد أي مسار إيجابي بين ترامب وبين جماعة الإخوان والدول الراعية لها والداعمة لها قد يفضي إلى إعادتهم إلى الساحة السياسية المصرية من جديد بعد الإطاحة بهم، بل تريد العكس تماماً بما في ذلك تضمين الجماعة ضمن التعريف الأميركي للجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة وهو الأمر الذي لا يلقى أهمية حتى الأن عند إدارة ترامب، مثله مثل "عملية السلام" المجمدة والذي كانت تضطلع القاهرة فيها بدور قيادي تحت إشراف ورعاية أميركية، فالإدارة الجديدة في البيت الأبيض صرحت مؤخراً بأن رؤيتها حيال هذا الأمر يخضع لمبدأ "سنوافق على ما ستوافقون عليه" دون تدخل أو تحمل مسئولية مسار تفاوضي معادلته "السلام الدافئ" والتطبيع مقابل حل الدولتين، والذي أصبح وفق التصريحات الأخيرة إبان زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لواشنطن قبل أسبوعين في خبر كان. إذن وطبقاً للسابق ما الذي يمكن أن تحققه القاهرة في إطار رؤية ترامب للشرق الأوسط يمكن أن يحقق حل وسط بين ما تريده الأولى من استعادة دور إقليمي مفقود ودعم اقتصادي وسياسي يوطد الاستقرار الداخلي؟ يجيب عن هذا السؤال الأدميرال المتقاعد، جيمس ستافريديس، عميد كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأميركية، وأحد مستشاري البنتاجون في مقال له نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية الأسبوع الماضي بالقول: "أظهرت سلسلة المحادثات الأخيرة التي جرت بين خبراء الدفاع الأميركي والحكومة المصرية، العديد من الموضوعات الرئيسية التي ترسم فكر الحكومة المصرية هي كالتالي: أولاً: ترى مصر نفسها بمثابة مرتكز استقرار الشرق الأوسط وأمنه. كما أن المنهج الرئيسي للحكومة المصرية، والمكونة من فريق من التكنوقراط الذين جمعهم السيسي، هو "الأمن قبل الكمال"، ما يعني أنها ستحاول تحسين حقوق الإنسان، إلا أن أولويتها الرئيسية تبقى ضمان الأمن اليومي في الشوارع والتخلص من الإرهاب. ثانياً: تسعى الحكومة لدفع عجلة النمو الاقتصادي، التي اكتسبت بعض القوة خلال العام المالي الماضي (حوالي 4.2%) بالرغم من التدهور الحاد في قطاع السياحة. وتقوم الحكومة بهذا عبر العمل على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتعاون مع إسرائيل في العديد من المشروعات المشتركة والتكنولوجيا، وإعادة تنشيط قطاع السياحة. ثالثاً: يرغب المصريون في التأكد من حماية قناة السويس، باعتبارها مصدراً هاماً للدخل القومي، ورمزاً لمجتمع الشحن والخدمات اللوجيستية العالمي، والذي تشعر مصر بمسئوليتها عنه. رابعاً: تلتزم مصر بعلاقتها مع إسرائيل والولاياتالمتحدة، إلا أنها ستسعى للبحث عن شركاء إضافيين غير تقليديين". ورأى ستافريديس أنه حيال النقاط السابقة فإن هناك مساحة عمل مشترك بين واشنطنوالقاهرة يمكن أن تحقق مصلحة الأولى بقليل من المجهود والدعم حيال مختلف أولويات السياسة المصرية في الداخل والخارج والتي لا تبتعد كثيراً من وجهة نظره عن أولويات الولاياتالمتحدة تحت حكم ترامب، قائلاً " كيف يمكن للولايات المتحدة مساعدة المصريين في الاستمرار بالمسار الإيجابي؟ وأين تقاطع المصالح المتبادلة بين الولاياتالمتحدة ومصر؟ أولاً: قبل كل شيء يجب ضمان علاقة عمل جيدة بين إسرائيل ومصر، وهذه بالفعل شراكة إيجابية في الشق الاستخباراتي والأمني، وكذا المصالح التجاري المشتركة. ويمكن للولايات المتحدة الدفع نحو مستويات أعلى من التعاون العسكري. يعرف وزير الدفاع الأميركي الجديد جيمس ماتيس – القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية – جميع اللاعبين بشكل جيد منذ أيام وجوده في الخدمة. عليه إذاً أن يقوم برحلة مبكرة لكلا العاصمتين، مؤكداً أهمية هذه العلاقة، ومقدماً لها مستوى معقولاً من الدعم العسكري والتكنولوجي. كما أن علينا الحذر من الأفكار المثيرة للجدل مثل نقل سفارة الولاياتالمتحدة إلى القدس، وهو ما يمكن أن يشعل الغضب في أوساط المصريين العاديين. ثاني هذه العلاقات الرئيسية من زاوية النظر الأميركية – والتي تزايد التوتر فيها مؤخراً- هي العلاقات بين مصر والسعودية؛ حيث تسعى الرياض لقيادة العالم السني، ويريدون شريكا مُطيعا في القاهرة، إلا أن المصريين يرون أنفسهم قادة، وغير مستعدين لإتباع أملاءات السعودية في اليمن، والقضايا الإقليمية الصعبة الأخرى، كما أن البلدين لديهما نزاع غير منطقي على جزر في البحر الأحمر، وهو الأمر الذي يوتر العلاقات الثنائية بينهما. هنا يجب على الولاياتالمتحدة أن تعمل بجد لمساعدة هذين الحلفين شديدي الأهمية ليريا أن الخطر الذي تمثله إيران الشيعية هو المسألة الأمنية الرئيسية في المنطقة. وينبغي على وزير الخارجية الأميركي الجديد، ريكس تيلرسون أن يزور الرياضوالقاهرة قريباً. ثالثا: يمكن للولايات المتحدة مساعدة القاهرة من خلال تشجيع النمو الاقتصادي، والمشاركة بين الحكومة الأمريكية والمصرية يضفي مصداقية دولية للقاهرة وهذا يمكن أن يساعد في فتح الاستثمارات الأجنبية المباشر. ويمكن أيضا للولايات المتحدة تقديم الدعم الدبلوماسي لمصر في الهيئات الاقتصادية الدولية بما في ذلك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذلك في المحافل التابعة للأمم المتحدة، إدارة ترامب يجب أن تدرك أيضا أن الهجرة إلى الولاياتالمتحدة هي قضية اقتصادية مهمة لمصر، ويجب أن تعترف بضرورة فتح المجال للطلاب المصريين، ورجال الأعمال والأكاديميين، وغيرهم. كما يمكن للولايات المتحدة أيضاً تقديم الدعم الدبلوماسي لمصر عن طريق الهيئات الاقتصادية الدولية بما في ذلك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذلك في المحافل التابعة للأمم المتحدة. يجب أن تدرك إدارة ترامب أيضاً أن الهجرة إلى الولاياتالمتحدة هي قضية اقتصادية مهمة لمصر. ويجب أن تُدرك الولاياتالمتحدة الحاجة إلى السفر الشرعي إلى أميركا للطلاب ورجال الأعمال والأكاديميين المصريين، وغيرهم ممن يمكن أن يساعدوا بفاعلية كسفراء ثقافيين. رابعاً: يجب أن نعمل مع الشركاء المصريين لضمان أمن قناة السويس، الممر المائي العالمي والحيوي والذي يعتبر جزءاً أساسياً من المشاعات البحرية. سيتطلب هذا مستويات أفضل من تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتطوير الحلول التكنولوجية الجديدة للمراقبة ولإجراءات مكافحة الإرهاب، وتبادل المعلومات الصناعية البحرية باستمرار. أخيراً: يمكن للولايات المتحدة تشجيع الشراكات الإقليمية لمصر بخلاف الشراكات التقليدية مع إسرائيل والسعودية. إمكانية البحث والتنقيب في شرق المتوسط من الممكن أن تجعل كل من اليونان وقبرص شركاء محتملين. ويجب أيضاً ألا ننسى أن الناتو لديه برنامج قوي للتعاون الإقليمي في منطقة البحر المتوسط للدول غير الأعضاء في الحلف، يسمى "الحوار المتوسطي". ويمكن أن يكون هذا منطلق جيد لبدء هذه العلاقات". إلا أنه بالمحصلة وعلى الرغم من سهولة وتفاؤل الطرح السابق الذي قدمه ستافريديس فأنه يحمل معوقات قد لا تتحقق بنفس السهولة التي كُتبت بها وعلى سبيل المثال توسيع التعاون العسكري بين تل أبيب والقاهرة برعاية أميركية، وإنهاء التباين المصري- السعودي، وصعوبة دمج البلدين في إطار سياسي وعسكري واحد بجانب إسرائيل وفق أجندة أولويات مجهدة ومُكلفة وغير ذات أولوية للقاهرة، خاصة وأن الأخيرة تتمسك بمبدأ عدم الانخراط عسكرياً في الخارج طبقاً لأجندات وأولويات لدول أخرى وإن كانت "حليفة" وصديقة، وبالتالي فإن الأمر يرتبط على المستوى القريب والمتوسط بإيجاد صيغة مشتركة تتوافق فيها أولويات القاهرة وتلبية حاجاتها مع أولويات الإدارة الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط، التي إذا اضطلعت بمهمة إيجاد مثل هذه المشتركات بما فيها تقليل التباينات بين "شركائها" في المنطقة فإنها تتخلى عن مبدأ عدم الانخراط المباشر وتعود من جديد إلى دور الراعي الأكبر لسياسات المنطقة وما يتطلبه ذلك من تكلفة سياسية واقتصادية وعسكرية تريد الولاياتالمتحدة إنهائها منذ سنوات –حيث الخلاف الداخلي بين الجمهوري والديموقراطي على الطريقة والتوقيت وليس على المبدأ- وبالتالي فإن المرجح على المستوى القريب لمستقبل العلاقات بين القاهرةوواشنطن هو الاستمرار في تعزيز التعاون على مستوى ثنائي وإيجاد بروتوكولات تعاون محددة بين البلدين فيما يخص ملفات بعينها تحتل موقعاً متقدماً في أولويات القاهرة ومتأخراً في أولويات واشنطن، مثل الوضع في ليبيا وملف سد النهضة ومواجهة الإرهاب، وليس المشاركة في حلف سياسي/عسكري بين واشنطن وباقي دول "الاعتدال" وإسرائيل، بوصلته تخالف أولويات النظام المصري والانخراط فيه بجدية لن يحقق سوى مزيد من التعثر الخارجي وربما الداخلي للقاهرة.