في غبار المعارك تتوه المعاني، وتشوش المعلومات، وتسود الإشاعات، ومثل كل المعارك الانتخابية، في النقابة أو خارجها دائماً هناك حقائق، وأكاذيب، وافتراءات، وفي انتخابات الصحفيين هذه المرة أكثر إن لم يكن كل هذه الافتراءات المصنعة في الغرف المظلمة تبدو ساذجة، ولا تنطلي إلا على ذوي النفوس الضعيفة، أو أصحاب المصالح الخاصة، أو منتهزي الفرص. وفي محاولة للفهم ولإزاحة هذا الغبار من فوق الرؤوس أطرح عدة أسئلة أساسية: هل هناك تدخل حكومي لمحاولة السيطرة على النقابة، ومن ثم تمرير القوانين الخاصة بالإعلام، ومنها القوانين المتعلقة بشئون المهنة وتلك المختصة بالحريات وتداول المعلومات؟. الإجابة التي يقولها تاريخ النقابة الطويل: نعم بالفم المليان. هل النقابة ضمن منظومة الإعلام المطلوب السيطرة عليها؟ وفق وقائع التاريخ البعيد جداً، والحاضر القريب جداً الإجابة: نعم ونبصم على ذلك بالعشرة. هل يمكن النظر إلى ما يدبر في الخفاء لانتخابات نقابة الصحفيين بمعزل عن السعي الحثيث المعلن لغلق المجال العام، وإسكات المجتمع المدني وتقليم أظافره؟، وإخراس أي صوت مخالف؟ الإجابة عند تلاميذ الكي جي وان: لا طبعاً، لا يمكن عزل هذا عن ذاك. هل سلم النقابة الذي صار عبر السنوات الخمس عشرة الماضية بقعة احتجاج عام ملتهبة باستمرار يؤرق الذين يتبنون طرق التعامل الأمني مع القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ والإجابة المتفق عليها: بالتأكيد يؤرقهم ويتمنون لو يصبحون في يومٍ قريبٍ فلا يجدوا السلم ولا النقابة ذاتها. طيب هناك سؤال افتراضي: لو تم انتخاب نقيب الخدمات ومجلس كله من أصحاب هذه النظرة الضيقة للعمل النقابي هل سيكون في مقدورهم تقديم الخدمات وزيادة الأجور وحل مشاكل الصحفيين المتعطلين، وهي ملفات لا تقل خطورة عن الحريات وتنظيم شئون المهنة الخ الخ؟. والإجابة من أفواه النظام وألسنته تقول: منين يا حسرة، أنا مش قادر أديك.. أنت مش محتاج تقولي هات، أنا لو أقدر أديك حا اديك من عيني، بس أنا مش قادر أديك.! والسؤال الأخير: هل نقابة قوية عصية على التطويع ونقيب أثبتت الأيام جدارته لتمثيل الصحفيين يمكنها أن تحصل على خدمات مطلوبة، وحقوق مستحقة، وكرامة يجب أن تكون مصونة، ومصالح يجب أن تكون محفوظة؟ الإجابة: نعم، وميزانية النقابة لهذا العام تؤكد هذا المعنى، فيها فائض 40 مليون جنيه، وقدمت خدمات غير مسبوقة في عهود سابقة، وحصلت من الدولة على دعم هو الأكبر في تاريخها، (50 مليون جنيه). إذن لماذا الترويج اليوم لفكرة نقيب الجسور، ولماذا تعود اليوم نغمة نقيب الخدمات؟ الحق أن مثل هذه القسمة وهذا التقسيم لا يروج إلا في الفترات التي تريد الحكومة فيها إعادة سيطرتها على النقابة وبسط نفوذها على العمل النقابي. والتاريخ شاهد، والوقائع ثابتة، بعضها كان مع أول لحظة في التفكير لإنشاء النقابة وبعضها قريب لا يكاد ينسى. ** 75 سنة مرت على قيام النقابة الحالية، واحتفلنا بيوبيلها الماسي العام الماضي، ولن أتحدث عن المعوقات التي وضعتها الحكومات من أول الحكومات الواقعة تحت الاحتلال، أو تلك التي وضعتها حكومات ما بعد ثورة 1919، ولكن التاريخ يشهد على أن الحركة النقابية الصحفية ظلت تطالب بتأسيس النقابة من أول 1909 حتى قبلت حكومة علي ماهر التقدم إلى مجلس النواب بمشروع إنشاء نقابة للصحفيين، أعده رائد الحريات العامة وحرية التعبير والصحافة محمود عزمي، وظل في حالة جدل إلى أن صدر القانون بإنشاء النقابة. ما لا يعرفه أصحاب نظرية الجسور ومبدأ أن "الخدمات مقدمة على السياسة" أن أول جدل في مجلس الشيوخ عند مناقشة مشروع قانون النقابة هو اعتراض النائب يوسف أحمد الجندي الشهير برئيس جمهورية زفتي على نص كانت لا تخلو منه قوانين النقابات المهنية في ذلك الوقت بحظر الاشتغال بالسياسة، وقال: «كيف يحظر علي نقابة الصحفيين الاشتغال بالسياسة لأن تنظيم مهنة الصحافة وتكوين نقابة يستلزم الاشتغال بالسياسة، فإذا سنت الحكومة قانونا من شأنه الحد من حرية الصحف مما يستدعي أن تناقشه هيئة النقابة تم منعها بحجة إشتغالها بالأعمال السياسية، مع أن طبيعة تنظيم المهنة تقتضي من النقابة الكلام في السياسة، كما أن العمل على رفع شأن الصحافة وإعلاء كلمتها يستدعي حتما تعرض النقابة للشئون السياسية». وامتد الجدل، وفي النهاية انتصر منطق وحجة يوسف الجندي، وكانت نقابة الصحفيين هي أول نقابة لا يحظر قانونها الاشتغال بالسياسة. على طول تاريخها كانت الحكومات تريد أن تقتصر نقابة الصحفيين على دور خدمي باهت، ولكن وعي الصحفيين وحضور وقوة جمعياتهم العمومية حافظت دائماً على الدور الوطني للنقابة، وفي كل الأوقات كان حرص الصحفيين على ممارسة هذا الدور الوطني بمعزل عن تحويلها إلى منابر حزبية، أو منصات سياسية بالمعنى الضيق للسياسة، وظلت تمارس دورها الوطني العام طول الوقت. وواصل الصحفيون نضالهم من أجل حرية الصحافة وحق المواطنين في المعرفة وتوجوا هذا النضال عام 1995 حين تصدوا على مدار عامين في معركة النفس الطويل لقانون اغتيال حرية الصحافة سنة 1993، وقرروا الإضراب العام يوم 10 يونية 1995، وقالوا لمبارك لن نركع لتهديدات السلطة ولن نخاف، وتحول ذلك اليوم المجيد في تاريخ النقابة إلى "يوم الصحفي" نحتفل به كل عام. ** لم تدخل نقابة الصحفيين معركة عنوانها الحرية والكرامة وخسرتها، وقد مر وقت طويل لم تكن نقابة الصحفيين تقدم لأعضائها "خدمات" من تلك النوعية التي يسوق لها اليوم في سوق الانتخابات الصاخبة التي تسوء معها سمعة الصحفيين وتذهب هبيتهم حيث ينظر إليهم كساعين إلى بضعة مئات من الجنيهات يسدون بها أفواههم ويخرسون بها ألسنتهم. لقد أتى حين من الدهر لم يكن " البدل" شيئاً مذكوراً. كان راتب الصحفي يكفيه وزيادة، وكان الصحفيون من المراتب العليا في الرواتب، حتى جرى إفقارهم ليبقوا مفتقرين دوماً إلى الفتات، ترميه إليهم الحكومات مع كل انتخابات ترشح فيه نقيباً للجسور. معركة انتخابات الصحفيين لا هي سياسة ولا هي خدمات، هي تاريخ طويل من الدأب الحكومي على وضع "نقابة الصحفيين" في بيت الطاعة الأمني. الإعلام هو أعز ما تملك السلطات الاستبدادية ولا يفرطون فيه بسهولة.. والصحفيون يدركون أن حرية الصحفي وكرامته ومصالحه ثلاثة قوائم ملتصقة لا تنفصل، ولا يجوز التفريق بين أحدٍ منها. النقابة التي لا تقدم خدمات لأعضائها ولا تسهر على خدمتهم ينقصها دور رئيسي من أدوارها، والنقابة التي لا تسهر على احترام كرامة المهنة والصحفيين لا تستحق الحياة، والنقابة التي لا تضع الحرية على رأس أولوياتها واهتماماتها تخسر معنى وجودها وجدواه. الحرية والكرامة ومصلحة الصحفيين لابد أن تكون برنامج كل مرشح لمنصب النقيب ولعضوية المجلس، فهذا التزامهم، وذلك هو ما استقر عليه نضال الصحفيين عبر ما يزيد عن القرن من أجل إنشاء نقابة قوية تعبر عنهم وتحفظ كرامتهم وتحقق مصالحهم. الخدمة الحقيقية التي يجب أن تتجمع عليها أصوات الصحفيين وتتكاتف سواعدهم وتتعاضد جهودهم عليها هي "إنقاذ المهنة"، وهي مهمة ثقيلة، والنقيب، أي نقيب، والمجلس، أي مجلس ليس مسئولاً عن الأزمة، ولا في استطاعته وحده التعامل معها. الأزمة لها طابع اقتصادي قبل أن يكون لها طابع مهني، ولها حلول قانونية قبل أن تكون حلولاً نقابية، والصحفيون اليوم مطالبين بأن يتجنبوا الخلافات وأن يعبروا هؤلاء الذين أرادوا شق الصفوف، وأن تتحد إرادتهم لاختيار نقيب للصحفيين وأعضاء لمجلس النقابة في تجديده النصفي، بعيداً عن الجسور التي سرعان ما تسقط وتغرق الجميع في المياه العكرة التي تتدفق في نهر تطويع العمل النقابي واستتباع المجتمع المدني لسلطة تكره كل صوت مخالف. لا النقيب ولا المجلس، أياً كان من يجلس على مقعد النقيب، وأياً كانت عضوية المجلس، يمكنه أن يحل أزمات الصحفيين الاقتصادية في بلد يعاني أشد المعاناة من أوضاعه الاقتصادية.. الشيء الوحيد القادر على تقديم حلول حقيقية لأزمة الصحافة ويضمن حقوق الصحفيين هو وحدة الصحفيين، وعدم تسليم مفتاح النقابة هدية لأولئك الذين اقتحموها. نحن لا ننتخب من يحل لنا مشاكلنا الاقتصادية ولا المهنية، نحن ننتخب من يجمع قوتنا ويحصن استقلالنا ويفاوض باسمنا من أجل تحقيق هذه المصالح والزود عن هذه الحقوق. أهم نقطة يجب أن نضعها فوق حرفها أن تعي الجمعية العمومية أن أخطر ما يجري الآن وسط قنابل الغبار التي تطلق في معركة انتخابات الصحفيين، بما فيها تركيز الحديث عن الخدمات، أننا لسنا مقبلين على حلول للأزمات بل زيادتها، ولنتذكر جميعاً أن اختطاف النقابة اليوم معناه أن يتم تمرير القوانين المتعلقة بتنظيم المهنة، وعلى رأسها قانون تداول المعلومات وقانون الحفاظ على الحريات وقانون النقابة. ذلك هو هدف المعركة، وهذا هو ما يسعون إليه، فاختاروا لأنفسكم ما هو خير وأبقى كما يقول النقيب يحيى قلاش.