بعد حالة من الجدل والضجة صاحبت وصول ترامب إلى منصب رئيس الولاياتالمتحدة تكشف العديد من الوقائع الجديدة عن توجه أمريكي أخذ في التبلور في الفترة الماضية بخصوص الشرق الأوسط ، في سياق يحمل تراجعاً ملحوظاً للمشروع الإقليمي السعودي بمعناه العام مع حقيقة أن المملكة هي المشترى الأكبر لمنتجات المجمع الصناعي الامريكي للسلاح حتى هذه اللحظة ولعامين متتاليين الماضي وقبل الماضي، مما يجعلنا نفهم أن التلاسُن السابق بين إدارة ترامب الناشئة والإدارة السعودية لن يعني بحال انفصالاً سعودياً أمريكياً في السياسات وإنما تغيُّرا في شكل العلاقة العضوية بين النظامين، طالما بقيت عوامل مثل خارطة احتياطيات الطاقة وأشكالها الأرخص والأكثر قابلية للاستخدام وتجارتها وطرق نقلها في العالم بشكلها الحالي والقديم نسبياً، وطالما بقيت الحصة الأمريكية من مجمل الاقتصاد العالمي بحجمها وشكلها الحالييَن وطالما عاشت أو استفحلت الأزمة الحالية للاقتصاد الأمريكي والتي كان أحد انعكاساتها هو "فوز ترامب" في حد ذاته بمنصب ممثل الطبقة الحاكمة الأمريكية ، في ظل عجز – كُلّي في الميزان التجاري بلغ حوالي 502 مليار دولار في نهاية عام 2016 وعجز في الميزان التجاري مع الصين على وجه الخصوص بلغ 347 مليار دولار. والحقيقة أن حركة التصحيح الاقتصادي التي تتجه إدراة ترامب إليها بخصوص الصين والتي يصفها البعض ب"حرب اقتصادية" وشيكة ستشكّل حين تكتمل ملامحها إجرائاً نفعياً مفهوماً لتعديل الميزان لمصلحة أمريكا، مع بقاء شبح انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في حالة فرض إدارة ترامب جمارك مرتفعة على البضائع الصينية إذ غالباً ما ستقرر الإدارة الصينية في هذه الحالة التعامل بالمثل. ويبدو أن ترامب، الذي وقّع في الخامس من فبراير الحالي مرسومين يقضيان بالحد من الضوابط المالية المفروضة على القطاع المصرفي بموجب قانون (دود – فرانك) الذي أصدره الرئيس السابق باراك أوباما، لا ينوي تحميل هذا القطاع تكلفة انقاذ الاقتصاد الأمريكي بل على العكس يتخذ اجرائات لكفالة توسع المصارف في منح القروض ورفع القيود عن الأسواق المالية رغم تعهده سابقاً بالتصدي للمصارف الكبيرة ولسياسات القطاع النقدي ، الذي يشكّل نقطة المركز والثقل في الأزمة البنيوية المتطاولة زمنياً للاقتصاد الأمريكي في إطار تحوله من اقتصاد انتاجي إلى اقتصاد مالي ونقدي . معادلة الاقتصاد والأمن في الشرق الأوسط في مشهد كهذا يأتي التغير في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد فشل إدارة اوباما في تلك المنطقة والذي تمثل في تقوية أعداء أمريكا هناك بدلاً من إضعافهم فضلاً عن إسقاطهم ، وتورُط في مشروع سياسي التقى مع آخَر سعودي لفترة من الزمن ولم يعد كلاهما صالحاً بالإضافة لتحقيقهما عكس المرجو منهما، مما يبدو أنه يدفع الإدارة الأمريكية إلى الذهاب لإقامة معادلة متوازنة تضمن تثبيت الاستثمارات والمصالح الاقتصادية الأمريكية في المنطقة وتحاول بقدر المستطاع توسيعهما لتحسين وضع الاقتصاد الأمريكي إجمالاً، وتكفل تعويض التراجع الأمريكي أمام السياسة الروسية والصينية والتخلص من العبء السياسي السعودي والذي تُحمّله إدارة ترامب جزئاً من المسؤولية بخصوص هذا التراجع بالإضافة للمسؤولية عن نمو وانتشار قوى الإرهاب في المنطقة والعالم، وتضمن أمن الكيان الصهيوني كأحد المحددات الدائمة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، مع العديد من المؤشرات ترتكز تلك المعادلة على الآتي: تحجيم إيران وحزب الله على التوازي مع إصدار تقرير "التقييم الإستراتيجي السنوي لمعهد بحوث الأمن الوطني" في الكيان الصهيوني والذي خلص إلى أن حزب الله يشكل أكبر تهديد لأمن الكيان تليه إيران، أعلن أحد مستشاري ترامب لشؤون الشرق الأوسط أن الإدارة ستعيد النظر في الاتفاق النووي مع إيران كونه لا يراعي المصالح الأمريكية، بالإضافة إلى إعلان مسؤولين أمريكيين لوكالة رويترز أن الإدارة تدرس إدراج الحرس الثوري الإيراني على قائمة التنظيمات الإرهابية بعد فترة من التوتر شملت تجربة إيرانية لصاروخ باليستي. و من هنا تتجه الإدارة الأمريكية نحو الضغط على إيران والعزوف عن إكساب وضعها النووي شرعية تراها الإدارة الجديدة تراجعاً عن الأمن القومي الأمريكي وخطراً على أمن الكيان الصهيوني، وسيشهد هذا الملف جولات من الشد والجذب لأن تلك المؤشرات لا تشير مباشرة إلى إلغاء فوري من الطرف الأمريكي للاتفاق بقدر ما تشير إلى سعي الإدارة الأمريكية الجديدة إلى وضع إيران في خانة القوة المتطرفة التي يجب الإبقاء على محاصرتها أملاً في إرغامها على تقديم تنازلات اقتصادية وسياسية لصالح السوق العالمي والسياسات الأمريكية ، في مقابل قوى أخرى "معتدلة" ومتعاونة أي ملتزمة بأمن الكيان الصهيوني وبمكافحة الإرهاب بالمعنى الأمريكي فقط وتتعامل مع المنظومة الاقتصادية العالمية بشروط تلك المنظومة وبالتبعية لها وتتعاون أمنياً واستخبارياً مع الإدارة الأمريكية. وفي هذا الإطار قد يجري استثمار أمريكي للتكتل السياسي السني الذي شكلته المملكة السعودية والخليج وله ظهير عسكري هزيل في اليمن – من أجل محاصرة إيران والخصم من دورها الإقليمي المتصاعد ومحاولة إفشال ما تمثله من نموذج اقتصادي يتبنى الاعتماد على الذات أو على علاقات اقتصادية متكافئة ويتجه إلى تنمية مستقلة ، ومن هنا ستنطلق مساومة أمريكية جديدة لإيران تقضي بعدم منحها لا اتفاق نووي ولا شهادة "محاربة الإرهاب" وهو ما تمارسه بالفعل في العراقوسوريا إلا في مقابل سياسات "معتدلة" بالمعنى الأمريكي من جانبها ، الجدير بالذكر أن قرار ترامب بمنع ووقف العمل بتأشيرات دخول الولاياتالمتحدة بخصوص مواطني بعض الدول العربية والإسلامية قد شمل إيرانوالعراق واليمن ولم يشمل المملكة السعودية التي اتهمها ترامب بالتحالف والتنسيق مع الإدارة الأمريكية السابقة في تخريب الشرق الأوسط ونشر الإرهاب والتطرف فيه . الأردن ومصر ومحاربة داعش.. تطوير دور وتثبيت الآخر مثّلت الدولتان فيما مضى ركنان أساسيان لمجموعة "محور الاعتدال" تأسيساً على حقيقة ارتباطهما بمسائل رئيسية ثلاثة: إقامة معاهدات سلام وتعاون موَسّعة مستقرة وذات ظهير اقتصادي مع الكيان الصهيوني (كامب ديفيد ووادي عربة) ، المساهمة الفاعلة في مكافحة الإرهاب بالمعنى الأمريكي أمنياً واستخبارياً والتنسيق المعلوماتي الأمني والديبلوماسي عالِ المستوى الالتزام بنظام اقتصاد السوق المفتوح وحرية التجارة، بما يشمله هذا الالتزام من تسهيلات وربط للأسواق والخدمات والتشريعات بالأموال الأمريكية، وبالامتناع عن أي سياسات اقتصادية بديلة قد تكفل الخصم من المصالح الأمريكية لصالح أي طرف آخر، بهذا المعنى. في هذا الإطار جاءت زيارة العاهل الأردني لتكون الأولى لرأس سلطة عربي للولايات المتحدة في عهد ترامب وبعد انتخابه بأيام، وهي الزيارة الثانية خلال أسبوعين تقريباً بعد زيارة سابقة التقى خلالها الملك بالطاقم السياسي لترامب قبل حلفه اليمين، النظام الأردني، وهو من أبرز أعضاء الحلف الأمريكي لمحاربة داعش ومن الأطراف التي تتحمل تكلفة انتشار الإرهاب في سوريا في الملف الأمني – بعد تبنيه تدريب وإدخال إرهابيين في ومن الأراضي الاردنية – وملف اللاجئين، مرشح بقوة للعب دور وازن بالنسبة للمعادلة السياسية الأمريكية الجديدة بخصوص سوريا، فهو حليف موثوق وقريب جغرافياً من ميدان الصراع ومنخرط فعلياً في التحالف العسكري الأمريكي ، وذو اقتصاد خَدَمي صِرف يضم مناطق اقتصادية "خاصة" مفتوحة بالمعنى الاقتصادي واتفاقيات عديدة لما يُطلق عليه "المناطق الصناعية المؤهلة" مع الولاياتالمتحدة أي استثمارات وتجارة تقدر بملايين الدولارات للصالح الأمريكي ومن وراءه الغربي ، فضلاً عن تنسيق أمني وسياسي وعسكري غير محدود سابق وقائم مع الإدارة الأمريكية وتلقي لمعونات مالية غربية مستدامة وقديمة بهدف احتواء الديموغرافيا الفلسطينية في الداخل الاردني. من هنا نفهم تزامن تصريحات ترامب بشأن "إقامة مناطق آمنة للفارين من العنف في سوريا" مع زيارة العاهل الاردني والتي جائت بدورها بعد زيارته إلى روسيا في مسار يبدو موازياً لاجتماعات استانة التي تلعب فيها تركيا دوراً وازناً آخر بالنسبة لروسيا ، من حيث علاقتها العضوية بالفصائل الإرهابية في سوريا واستدارتها السياسية المؤخرة نحو حل سلمي للأزمة السورية . على جانب آخر، وفي مقابل رسائل التفاهم والمديح المتبادلة منذ شهور بين الإدارة المصرية والإدارة الأمريكية الجديدة وإلغاء مصر لمشروعها المطالِب بوقف الاستيطان الصهيوني للأراضي الفلسطينية في مجلس الأمن بفعل مكالمة من ترامب للرئيس المصري شخصياً، نرى تبايناً مصرياً سعودياً تزامَن مع هجوم ترامب الكلامي على المملكة وتعبيره عن أولوية مكافحة الإرهاب على محاولة تغيير الأنظمة الحاكمة، في خطاب يتطابق مع الخطاب المصري بخصوص الأزمتين السورية والليبية والمعبّر عن محاولة مصرية غير ناجزة للانعتاق جزئياً من المشاركة في المشروع السعودي، في ظل قراءة الإدارة المصرية لنيّة ترامب في تحميل المملكة السعودية جانب من التكلفة الاقتصادية والسياسية للأزمة السورية وما قد يتيحه ذلك من صعود قد يأمله النظام المصري للدور الإقليمي المصري على حساب الدور السعودي المتراجع وذلك تحت شعار الاعتدال ومحاربة الإرهاب ، وإدراك لا شك فيه من هذا النظام – على مستوى الفهم وليس الممارسة – للعلاقة الوثيقة سياسياً ومالياً وأمنياً ولوجيستياً بين إدارة المملكة وبين قوى الإرهاب ، ومن هنا يقدم النظام المصري نفسه للمعادلة الجديدة كمتضرر من الإرهاب ومحارب فعلي له في سيناء وصاحب دور رائد في مرحلة سابقة في إضعاف الدور الإخواني والتركي في المنطقة بالمخالفة للإدارة الأمريكية السابقة ، الدور الذي أتى دعم إدارة اوباما له في سياق الفوضى المضرة بالمصالح الأمريكية وفق رؤية الإدارة الأمريكية الجديدة . من جهتها الخاصة فإن الإدارة الأمريكية الجديدة تأمل في تثبيت دور مصر ، صاحبة أكبر جيوش الشرق الأوسط حجماً والمتلقيَّة لمعونة عسكرية عَيّنية أمريكية سنوية ، كطرف اقليمي مُنكَبّ على مكافحة الإرهاب بالمعنى الأمريكي باستخدام السلاح الأمريكي استخداماً أمثل وفقاً لاتجاه الإدارة الجديدة المتزايد نحو محاصرة ظاهرة داعش ومن ورائها الفصائل المسلحة العديدة المنخرطة في أزمات المنطقة ، ولابد أن تلك الإدارة قد تلقت إعلان النظام المصري منذ فترة المبادرة نحو ما اُطلِق عليه توسيع اتفاقية كامب ديفيد كعامل "إعتدال" واضح يُضاف إلى عوامل اخرى كالتوجه الرسمي المصري الذي بات دائماً نحو محاولة حل القضية الفلسطينية بتكوين أي شكل من أشكال الدولة للفلسطينيين وبناء علاقات اقتصادية مع الدولة الصهيونية ، مما يعيد للأذهان تبني مصر للمبادرة السعودية للسلام عام 2002 والتي عُرفت باسم مبادرة السلام العربية والرامية إلى إقامة دولة فلسطينية مقابل تعاون واعتراف وتطبيع كامليْن من كامل الصف العربي أي تصفية التوجه البديل لذلك – وهو المقاومة – وعزله .