فوتوغرافيا: أحمد عماد في الإسكندرية، حيث تختلط الأزمنة وتتراكم طبقات التاريخ، في المدينة التي عُرفت بتنوعها الثقافي والإثني، ذات الماضى الكولونيالي الأوروبي، تحكي الشوارع والمساجد والأضرحة حكايات عربية خالصة. في ميدان سانت كاترين، مكان استشهاد القديسة السكندرية التي حملتها الملائكة إلى جبل سيناء كما تقول الأسطورة، يبدأ شارع سيدي أبو الدرداء. كما يبدأ شريطا ترام المدينة المتجهان إلى راغب وكرموز. في منتصف الشارع يتباعد شريطا الترام ملتفان حول حجرة مربعة الشكل تتوسط الطريق لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا مربعا، تزين واجهتها آيات قرآنية وأعمدة خضراء، تتوسط الواجهة بوابة كبيرة علي جانبيها نافذتان بعرض نصف متر لكل واحدة وارتفاع مترين. إنه مقام سيدي أبي الدرداء الأنصاري. هو عويمر بن مالك الأنصاري الخزرجي، ويقال اسمه عامر ابن مالك ولقبه عويمر، من صحابة رسول الله، أحد الأنصار الستة الذين جمعوا القرآن في حياة الرسول، أسلم يوم غزوة بدر، وكان يعمل تاجرا ثم تفرغ بعد إسلامه للعبادة. يقول أبو الدرداء عن ذلك " كنت تاجرا قبل المبعث، فلما جاء الإسلام، جمعت التجارة بالعبادة، فلم يجتمعا، فتركت التجارة ولزمت العبادة". وفي قصة إسلامه قال أبو الزّاهِريّة " كان أبو الدرداء من آخر الأنصار إسلاما، وكان يعبد صنما، فدخل ابن رواحة، ومحمد بن مسلمة بيته، فكسرا صنمه، فرجع فجعل يجمع الصنم، ويقول: ويحك ! ألا دفعت عن نفسك، فقالت أم الدرداء، لو كان ينفع أو يدفع عن أحد، دفع عن نفسه، ونفعها. فقال أبو الدرداء، أعدي لي ماء في المغتسل، فاغتسل، ولبس حلته، ثم ذهب الي النبي، فنظر إليه ابن رواحة مقبلا، فقال يا رسول اللله، هذا أبو الدرداء، ما أراه إلا جاء في طلبنا؟ فقال: إنما جاء ليسلم، إن ربي وعدني بأبي الدرداء أن يسلم. تقول الحكاية الشعبية أن المهندس الإيطالي المشرف على إنشاء ترام المدينة في بدايات القرن العشرين، أشار بيده إلى ضريح سيدي "أبو الدردار" ،هكذا ينطقها السكندريون، آمرا بإزالته كي يمتد شريط الترام في خط مستقيم فإذا بيده قد توقفت عن الحركة وشلّت تماما. لم ينفعه طبيب ولا دواء، فنصحه العمال بطلب العفو من صاحب المقام، طلب المهندس الإيطالي العفو من سيدي أبي الدرداء واعدا إياه ألا يزيل المقام أو ينقله من مكانه، عادت يد المهندس للحركة فقام بتعديل الرسومات الهندسية وجعل الترام هي التي تلتف حول مقام سيدنا. في عهد عمر بن الخطاب كتب يزيد ابن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعنّي برجال يعلمونهم، فأرسل عمر بن الخطاب ثلاثة من جامعي القرآن هم معاذ، وعبادة، وأبو الدرداء. فاستقر عبادة بن الصامت في حمص، ومعاذ في فلسطين ، أما أبو الدرداء فمكث في دمشق وأصبح قاضيها. لم يكن أبو الدرداء يمتاز بالحكمة فقط ولا بكثرة الصيام والصلاة ولا بجمع وتدوين القرآن في عهد الرسول بل عرف أيضا بالشجاعة، "فلما هُزم أصحاب رسول الله يوم أحد، كان أبو الدرداء يومئذ فيمن فاء إلى رسول الله في الناس، فلما أظلهم المشركون من فوقهم، قال رسول الله : "اللهم، ليس أن يعلونا" فثاب إليه ناس، وانتدبوا، وفيهم عويمر أبو الدرداء، حتى أدحضوهم عن مكانهم، وكان أبو الدرداء يومئذ حسن البلاء. فقال رسول الله: " نعم الفارس عويمر". يحكي الإسكندرانية، خاصة كبار السن، أنه في ليلة من ليالي الحرب العالمية الثانية، حين كانت الفوضي وجنون الحرب تعم المدينة، وسمائها في كل ليلة تضاء بكشافات كشف الطائرات وقنابل الألمان، أنه في غارة من إحدى غارات العدو تعرضت الإسكندرية لقصف شديد، ألقيت قنبلة هائلة الحجم على المدينة، كانت كفيلة بتدميرها تماما، حينها خرج سيدي "أبو الدردار" من مقامه، التقط القنبلة، ودخل بها في "عرض البحر" لتنفجر دخله، بعيدا عن المدينة وسكانها، الذين يحبونه ويحبهم. تشير المراجع التاريخية إلى وفاة أبي الدرداء في دمشق ودفنه بها، وله ضريح معلوم هناك داخل مسجد يحمل اسمه في دمشق القديمة. لا أحد يعلم من يرقد في مقام الإسكندرية، لكن، أينما يرقد جثمانه فلن يغير من الحقيقة في شئ، لن يتغير حب الناس للصحابي الجليل، أينما يرقد جثمان أبي الدرداء فلن يغير من إيمان البسطاء بحمايته، هو وأبو العباس والنبي دانيال وسانت كاترين، للإسكندرية.