تحرير مدينة حلب السورية بشكل كامل يعد نقطة تحول هامة في مسار الأزمة السورية ومسار المعارك الحربية على الجبهة الشمالية بشكل خاص، ليس فقط لأن حلب تعد الارتكاز الأهم في الشمال السوري سواء من ناحية الموقع والمساحة والربط اللوجيستي، ولكن كونها أخر معاقل المسلحين في جبهة الشمال التي شكلت في الأعوام الثلاث الأخيرة أكثر من ثلثي الحرب في سوريا من حيث المعارك والمدن المحررة وكذا ارتباطها بالحدود التركية التي كانت تشكل ظهير دعم استراتيجي للمسلحين منذ بداية الأزمة. على مستوى عسكري يمكن القول أن تحرير حلب أنهى معارك الشمال السوري الكبيرة وما تبقى من بؤر للمسلحين سرعان ما سيتم احتوائها بالمصالحات أو اتفاقات تسليم السلاح والإجلاء أو بالعمل العسكري الذي سيكون بمثابة تطهير بؤر تعتمد على تكتيكات حرب العصابات والعمليات الفردية، وليس كمعارك كبرى تستخدم فيها الأسلحة الثقيلة كمعارك حلب الأخيرة، كذا تمكن الجيش السوري وحلفائه من قطع إمكانية إيجاد خطوط اتصال بين مواقع المسلحين في شمال شرقي سوري وشمالها الشرقي، كما استطاع في الوقت نفسه إغلاق دائرة إمداد إدلب-التي تسيطر عليها جبهة النصرة سابقاً جبهة فتح الشام حالياً، ويتبقى في النهاية الجبهتين الأقل صعوبة بعد الشمال ونعني ما تبقى في وسط سوريا وتحديداً إدلب، وجنوب سوريا على جبهة الجولان المحتل وكذا جيوب متبقية في محيط درعا والجنوب السوري. على المستوى المعنوي فإن ليس هناك جدال حول قيمة الإنجاز العسكري الكبير الذي حققه الجيش السوري وحلفائه في حلب، فبعد شهور من المعارك الضارية نجح الجيش السوري في تحرير المدينة من المسلحين واستعادتها وهو الأمر الذي لم يكن ممكن قبل عامين مضوا، وهذا الأمر في حد ذاته مع مراعاة كم ما بذله الطرف الأخر وداعمينه الإقليميين على مدار الشهور الماضية لموازنة التقدم الذي حققه الجيش السوري وحلفائه، سواء الدعم الإعلامي والسياسي على مختلف المستويات الثنائية منها والأممية، أو الدعم الأمني والاستخباراتي والتسليح، وكذا التحالفات التي تمت مؤخراً بين مختلف الفصائل المسلحة كانعكاس لتفاهمات إقليمية بين تركيا والسعودية وقطر، وهو الأمر الذي نتج عنه طفرة عسكرية من حيث الكم والكيف في صفوف المسلحين، إلا أنها لم تكن كافية لصد الجيش السوري عن هدف تحرير المدينة. إقليمياً ودولياً اتخذت المسألة بعداً أمنياً واستخباراتياً بطبيعة الحال، خاصة أن تقدم الجيش السوري في حلب وزاه تقدم من جديد لعناصر داعش نحو مدينة تدمر الأثرية والتي كانت قد حررت العام الجاري، وهذا التقدم يؤكد على صحة ما سربته وسائل إعلام عالمية عشية بدء معركة تحرير الموصل العراقية عن اتفاق مشترك بين الولاياتالمتحدة والسعودية حول مصير عناصر داعش في المدينة ومحافظة نينوى بشكل عام، وهو الأمر الذي قيل وقتها أنه سيتم ضم ألاف من عناصر داعش على أقرانهم في تخوم تدمر ودير الزور شرق سوريا، كخطوة أولى في إيجاد ارتكاز أخير لقوات داعش على الأراضي السورية بعد تحرير الرقة بواسطة غارات التحالف الأميركي، والذي من شأنه في تدمر ودير الزور وريف الحسكة أن يكبح جماح التقدم الذي يحققه الجيش السوري وحلفائه على نفس الجبهة وخاصة بعد تحرير حلب، وذلك لضمان إيجاد أوراق ضغط في مسائل التسوية الأخيرة المتعلقة بمرحلة ما بعد داعش. على مستوى إقليمي ودولي. وبالإضافة للسابق فإن مسألة استعادة داعش السيطرة على تدمر من شأنها تثبيط الانجاز الاستراتيجي والمعنوي المتمثل في تحرير حلب، سواء من ناحية تأكيد قدرة التنظيم على لململة شتات نفسه من سلسلة الهزائم الأخيرة في سوريا والعراق، أو التأكيد على التباين أو الاختلاف ما بين محاربة داعش في تدمر وتحرير حلب من فصائل إرهابية مناوئه له مثل جبهة النُصرة، وكذلك قطع الطريق مبكراً على مسألة فاعلية الجيش السوري وحلفائه في إغلاق الحصار على التنظيم من ناحية الحدود السورية مقابل ما ينجزه الجيش العراقي ووحدات الحشد الشعبي والبشمركة الكردية من ناحية الحدود العراقية. شمالاً أيضاً يبدو أن حدود التدخل التركي الذي بدأ في الشهور الأخيرة بشكل رسمي ومباشر في سوريا يتبلور في معادلة مفادها طرد داعش أو المسلحين الأكراد المناوئين لتركيا من المناطق والمدن الحدودية شمالاً مثل مدينة الباب، والتي تستعد أنقرة لشن عملية عسكرية بغية إخضاعها لسيطرة موالين لها على غرار ما حدث في مدينة منبج قبل حوالي ثلاثة شهور. شرقاً تشير أخر التقارير الميدانية الواردة من جبهة الوسط والجنوب السوري أن تخوم مدينة إدلب تعاني من حلحلة صفوف الجماعات المسلحة وخاصة جيش الفتح/جبهة النصرة في مناطق ريف دمشق الواصلة بالمدينة التي يسيطر عليها مسلحي النُصرة، وإن كان في الوقت نفسه تجرى مشاورات بين الفصائل المختلفة هناك لعملية دمج وتوحيد مثل التي شهدتها حلب في الأيام الأخيرة الماضية، ومع مراعاة فتح جبهات قتالية مختلفة لتخفيف الضغط عن تخوم المدينة التي باتت أخر ملاذ للمسلحين الفارين من حلب أو بالأحرى كمحطة قبل أخيرة قبل ذهابهم إلى تركيا شمالاً. جنوباً بدأت إسرائيل تطل برأسها بشكل مباشر مع اعتماد الإعلام الصهيوني استراتيجية تمهيد لعمليات عسكرية في الداخل السوري أو على الأقل مناطق الجولان المحتل وتخومه، وتعكس الحادثة الأخيرة نية إسرائيل في استغلال مناوشات مثل هذه كذريعة لتقنين وانتزاع شرعية تواجدها في الجولان المحتل، خاصة بعد عودة قوات الأندوف واحتمالية تعديل خط 1974، كذا ادعاء حماية أقليات درزية في المنطقة، وكل ذلك في إطار مرحلة ما بعد داعش، وحصد مزيد من المكاسب الأمنية والإستراتيجية من تداعيات الأزمة السورية، خاصة وأن إستراتيجية تل أبيب الأمنية التي هدفت منذ أكثر من عامين إلى خلق طوق أمني على طول حدود سوريا وفلسطين المحتلة قد مُنيت بفشل كبير على أثر الانتصارات العسكرية التي حققها الجيش السوري وحزب الله في هذه المناطق، والتي حالت دون تحقيق التفاف يهدف إلى عزل الداخل السوري عن حدوده الجنوبية-الشرقية وتمركز مسلحي النُصرة وغيرها في هذه المناطق بالتوازي مع حملات الشرعنة والتبييض التي هدفت إلى قبول شعبي وإقليمي ودولي بوجود النُصرة، ولذلك أتت مسألة دروز سوريا وتواجد دوائر مسلحة تعلن تأييدها لداعش ومؤخراً تهديدها الصوتي لإسرائيل، لتجدد طموح الكيان الصهيوني في إيجاد طوق أمني ومنطقة نفوذ مبررة وشرعة داخل الأراضي السورية، بعد أعوام من التواجد الغير رسمي والغير معلن.
وبشكل عام فأنه يبدو كقراءة أولية لمعطيات الأحداث الأخيرة في سوريا وعلى رأسها تحرير حلب أن هناك إرادة لتفريغ مضمون الإنجاز الأخير معنوياً وميدانياً على مستوى المعارك الموازية التي أحرز فيها داعش تقدماً في تدمر، كذا محاولة فتح جبهات في الجنوب والوسط لتخفيف الضغط أو تعطيل سير العمليات العسكرية تجاه إدلب، وبترجمة الميداني سياسياً فإنه يبدو أن القوى الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة لا تريد حسم حقيقي لأي من أطراف النزاع في سوريا على الأرض لترحيل عملية التفاهم على الوضع النهائي وكيفية إدارته إلى العام القادم وبتسلم الرئيس الأميركي الجديد لمهام منصبه، كذا لضمان عدم اتخاذ المبادرة والمبادأة من جانب روسيا وحلفائها من جديد في سوريا، وارتباط مجريات المعارك هناك بمعارك تحرير الموصل ونينوى من داعش، والتي تعد معركة واحدة بمقياس القوى الدولية والإقليمية.