حرية الفكر في الإسلام واحد من القضايا والأسئلة المهمة التي واجهت المسلمون على مدار القرون الماضية فبينما يرى فريق رجال الدين المتشددين أن العقل فتنة ومدخل للشيطان، وبالتالي يرى علماء آخرون أن العقل وحرية التفكير هما جوهر الإسلام وفي هذا السياق يأتي كتاب المفكر والعالم الأزهري الراحل عبد المتعال الصعيدي بعنوان "حرية الفكر في الإسلام " الذي أعادت مكتبة الأسرة طباعته مؤخرًا. يحتوي الكتاب على ستة فصول وهم "الحرية الفكرية والحرية الدينية ،والجزاء والحرية الفكرية، والإسلام والحرية العلمية، والإسلام والحرية السياسية ، والإسلام والحرية الدينية ، وبعض أحرار الفكر في الإسلام" في مقدمة الكتاب يوضح الصعيدي السياق الذي إنتج فيه الكتاب كمساهمة في مشروع الإصلاح والتجديد الديني الذي شهدته مصر في الفترة من أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين " موضوع الكتاب تناوله كثير من علمائنا الأحرار بالبحث، وكان لى فيه بحوث نشرتها فى مختلف المجلات والجرائد وكانت لى فيها آراء واجتهادات فإذا سرت فى هذا الكتاب فإنما أسير فيه على هدى هؤلاء العلماء الأحرار، وإذا زدت فيه عليهم فإنما أسير فيما أزيد على سبيلهم من إيثار التجديد على الجمود وترجيح جانب الاجتهاد على جانب التقليد، وهذا الكتاب يتمم كتابى السابق (الحرية الدينية فى الإسلام)، وليس بتكرار له لأنه أعم منه موضوعًا وأوفى منه بحثًا". الحرية العلمية في الفصل الأول من الكتاب يؤسس الصعيدي لحرية الفكر بوصفها القيمة الأهم والأشمل التي يندرج تحتها ثلاث أنواع رئيسية من الحريات تشكل قاعدة رئيسية للعقد الاجتماعي للدولة الحديثة، وهم: الحرية العلمية والحرية السياسية والحرية الدينية، وفي هذا السياق يؤكد الكاتب أن الإسلام لا يتعارض مع تلك الحريات بل يدعمها، وعلى مدار الثلاث فصول الأولى من الكتاب يتحدث الصعيدي بالتفصيل عن تلك الحريات مقدمًا قراءة تاريخية للتراث الإسلامي ومستشهدًابالعديد من الأدلة التي تنحاز لقيمة الحرية وعبر هذه المقاربات يخلص الكاتب في تعريفه للحرية العلمية بوصفها " إطلاق سلطان العلم فوق كل سلطان، لأنه يعتمد في سلطته على العقل، وقد خلق الله العقل ليميزنا به على جميع مخلوقاته، فإذا أهملنا الاعتماد عليه لم يكن هناك معنى لخلقه فينا، ويضيف " وإذا كان هذا شأن العلم وسلطانه فإنه لا يكون هناك بد من المواءمة بين سلطانه وسلطان الدين، ليعيش كل منهما بجانب الآخر مطلق الحرية ، موفور السلطان ويتعاونا على سعادة الإنسان في دنياه وآخراه، بدلا من أن يقف كل منهما في سبيل الآخر ، فيشقى الإنسان باختلافهما ، وتضرب حياته بينهما ". يدلل الصعيدي على أهمية الحرية العلمية في الإسلام بالعديد من الآيات القرآنية والأحدايث النبوية التي تدعو للتفكير وللعلم "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب"، و" إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"، ويستشهد أيضًا بقصة النبي إبراهيم ورحلته مع الإيمان عبر التفكير في الكون والطبيعة وكيف وصل لعبادة الله عبر عدة مراحل عبد فيها ظواهر طبيعية مثل الشمس والقمر، ويوضح الصعيدي أن هناك نوعان من العلم هما العلم الديني والعلم الدنيوي "على أن الإسلام يقصر سلطانه على العلوم الدينية، فلها عنده أصولها التي تسمتد منها، وإن كان للعقل سلطانه أيضًا، لأن مسائلها تستمد من نصوصها بالاجتهاد، والاجتهاد وظيفة العقل"، ويكمل "أما العلوم الدنيوية فلا شأن لسلطان الإسلام فيها، وإنما السلطان فيها للعقل وحده، حتى لا يتحكم بها رجال الدين، ولا يحدث واحد منهم نفسه أن يقف في سبيلها باسم الإسلام، فيعيقوها عن التقدم والنهوض، ولأجل هذا ضرب النبي مثلًا كريما في علم الزراعة من العلوم الدنيوية، فمعلوم أنه نشأ بمكة حيث لا زرع فيها يكون عنده بعض العلم به، وأنما كان أهلها يشتغلون بالتجارة فلما هاجر للمدينة حيث الزراعة، مر على قوم يؤبرون نخليهم، أي يضعون ذكور النخل في طلع النساء، فقال لهم (لو تركتموه لصلح)، فتركوه فلم يصلح كما كان يصلح بالتأبير، فذهبوا إليه يخبرونهم بما حصل، فأمرهم أن يعدوا إلى تابيره كما كانوا يفعلون وقال لهم أنتم أعلم بأمور دنياكم، ليفصلوا بهذا بين علم الزراعة وغيره من العلوم الدينيوية وبين علم الدين وأحكامه". الحرية السياسية يشير الصعيدي في تعريفه للحرية السياسية في الإسلام للدور الذي يجب أن يقوم به رجال الدين في التأكيد على قيمة العدل ودعم الفقراء والضعفاء في مواجهة السلطة، وفي هذا السياق يقول " الحرية السياسية عبارة عن احترام رأي الفرد في الحكم بحيث لا تضيع شخصيته في شخصية الحاكم، بل يكون لرأيه سلطانه فيما يراه ولو تعلق بشخص الحاكم نفسه فيكون له الحق في معارضة إسناد الحكم إليه، وهنا يبرز سلطان الدين أيضا، لأنه يجب أن يقف بجانب الفرد في هذا الحق، حتى لا يكون للحاكم عنده سلطان فوق كل سلطان ، بل يكون شأنه في ذلك شأن كل فرد، حت لا يستبد وحده بالسلطان، وحتى لا يسير في الحكم بالظلم والطغيان "، ويطرح سؤال مهم وشائك في الفصل الرابع من الكتاب وهو هل الأمة مصدر السلطات في الإسلام؟ ، ويجيب الصعيدي قاطعًا بأن الأمة بالفعل هى مصدر السلطات في الإسلام "فللأمة حق اختيار الحاكم الذي تريده، وتعيين شكل الحكم الذي يقوم به" ويدلل الصعيدي بالعديد من المواقف التي أكد فيها النبي على الشورى وحرية الناس في الاختيار، مثل غزوة الأحزاب والخطط الحربية وغيرها من المواقف، مضيفا "ولما كانت الأمة مصدر السلطات كان لكل فرد من أفرادها حق هذه السلطة فيؤخذ رأيه في تنصيب الحاكم، ويكون له حق الاعتراض الحاكم، بحرية تامة في ذلك، أصاب في أو أخطأ". يؤكد الصعيدي على حق الاعتراض على الجاكم بما رواه أبو سعيد الخدري عن أن علي ابن أبي طالب بعث للنبي بذهيبة في أديم مقروظ فقسمها بين أربعة نفر، فقال رجل كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، فقال الرسول الا تأمنوني وأنا أمين من في السماء فقال رجل يا رسول الله اتق الله فقال له الرسول ويلك او لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله، وهنا تدخل خالد بن الوليد قائلًا ألا أضرب عنقه؟ فقال الرسول لعله يصلي، فقال خالد وكم من مصلي يقول بلسانه ما ليس بقلبه، فقال الرسول أني لم أؤمر أن أنقب في قلوب الناس ولا أشق بطونهم، ويوضح الكاتب أن هذا الرجل جاوز حق الاعتراض المقبول مع الرسول وكان عليه أن يسال أولا عن الحكمة من التوزيع، ومع ذلك فلم يعاقبه النبي بل قام بحمايته، مؤكدًا على حق الإنسان في معارضة الحاكم. الحرية الدينية في الفصل الخامس بعنوان " الإسلام والحرية الدينية" يؤكد الكاتب على حرية الاعتقاد التي أقرها الإسلام مستشهدًا بالعديد من الآيات القرآنية والمواقف النبوية "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، و" ا إكراه في الدين" ويوضح الكاتب أن آيات قتال الكفار في القرآن لم تكن في سياق عقائدي بل سياق حربي، فالمسلمون لم يحاربوا من أجل فرض الدين على الناس بل لتحريرهم وترك حرية الاختيار لهم، وفي هذا السياق يقول الكاتب "الحرية الدينية عبارة عن حق الإنسان في اختيار عقيدته الدينية فلا يكون لغيره من الناس سلطان عليه فيما يعتقده، بل يكون له أن يعتقد ما يشاء، ولا يكون لغيره حق استعمال القوة معه في دعوته إلى عقيدته ولا يكون لغيره حق استعمال القوة معه في إرجاعه إلى عقيدته إذا ارتد عنها، إنما هي الدعوة بالتي هي أحسن في كل الحالات، وإذا لم يكن لغيره حق استعمال القوة معه لم يكن له أيضا حق استعمال القوة مع غيره، حتى يتكافأ الناس في هذا الحق، ولا يمتاز فيه واحد بشئ دون الآخر، وإنما هي حرية مطلقة لكل الاشخاص، وحرية مطلقة في كل الأديان، وحرية مطلقة في جميع الحالات على السواء".