تمثلت بطولة «زفتى» في أنها استطاعت الاستقلال بذاتها عن الدولة المصرية، وتشكيل مركزية لمقاومة الإنجليز إبان فترة الاحتلال ولو لأيام معدودة، فرغم أنها قرية صغيرة بمحافظة الغربية، إلَّا أنها لفتت الأنظار إليها بشدة حين أعلنت استقلالها عن الدولة في 23 مارس إبان ثورة 1919 تحت قيادة الوفدي الثائر المحامي الشاب يوسف الجندي. استقلال القرية حين هزت الاضطرابات البلاد من قطع خطوط السكك الحديدية وتوقف الموصلات برًّا وبحرًا، مع اندلاع ثورة 1919، لم يجد الشاب الثائر وسيلة تنقله إلى مصر المحروسة «القاهرة» ليشارك في أحداث الثورة من مصدرها، فليس أمامه سوى أن يثور من مكانه ويشعل ثورة في قريته الصغيرة زفتى بأن يعلن استقلالها، وعدم امتثالها لما تصدره القيادة الحاكمة الممثلة في سلطة الاحتلال آنذاك. لجنة الثورة تم تشكيل «لجنة الثورة» التي ستتولى بدورها إدارة شؤون الدولة الجديدة، من بعض الأعيان والأفندية المتعلمين وصغار التجار، أبرزهم: الشيخ مصطفى عمايم، عوض الكفراوي، إبراهيم خير الله، محمد السيد، أدمون بردا، محمود حسن. واتخذت «لجنة الثورة»، الإدارة الحاكمة للدولة الجديدة، قاعة واسعة بالطابق الثاني من مقهى «مستوكلي» الذي كان يملكه يوناني عجوز مقرًّا لها، وكان أول قراراتها الاستيلاء على مركز البوليس، وهو ما تم بعد تزعم يوسف الجندي مظاهرة مسلحة بالبنادق والعطى والحراب والفؤوس، ضمت كل أهالي القرية الصغيرة وحتى الأطفال منهم، وزحفت المظاهرة إلى المركز، لكنها تجنبت إراقة الدماء بعدما تكشف لها أن مأمور المركز رجل وطني وهو «إسماعيل حمد» ومعه معاون بوليس لا يقل عنه وطنية اسمه أحمد جمعة، فخرج المأمور إلى المظاهر الحاشدة وسلم المركز والسلاح وقيادة الجنود والخفراء ليوسف الجندي، ثم عرض عليه أن يقدم خدماته كمستشار للدولة الناشئة، بفضل خبرته الكبيرة في الإدارة، ومن ثم اتجهت المظاهرة ذاتها إلى محطة السكة الحديد والتلغراف، فسيطرت على التلغراف فور الوصول إليها، واستطاعت السيطرة على عربات السكة الحديد الموجودة بالمحطة ومشحونة بالقمح لإرساله للسلطات الإنجليزية. توفير فرص عمل ورويدًا رويدًا، بدأت الدولة الناشئة تواجه مشكلاتها الداخلية؛ فأطلق يوسف الجندي حملة تبرعات بين الأعيان لتكون هناك خزانة للدولة، بهدف توفير فرص عمل لمن تسببت الثورة الجديدة في انقطاع سبل عيشهم ومصدر رزقهم، حتى لا تعم السرقة والقتل والنهب، واستطاعت القيادة الجديدة أن تحل بعض المشكلات وتقدم بعض الخدمات؛ حيث ردمت البرك المحيطة بالقرية، والتي يئسوا من مطالبة الحكومة بردمها منذ عشرات السنين، وأصلحوا الجسور القديمة وردموا أرضية الشوارع التي كانت تنشع بالماء إذا كان الفيضان، كما أنشأوا كشكا خشبيًّا على ضفة النيل لتعزف فيه الموسيقى. الوضع داخليًّا وخارجيًّا كان من المهام الأساسية التي يجب أن تضعها الدولة الناشئة في الحسبان هو تحقيق الأمن، لذلك جندت لجنة الثورة الطلاب وسائر المتعلمين بالقرية وقسمتهم إلى فرق، الأولى تراقب الحدود تحسبًا لاختراقها من الجواسيس أو أي قوى أخرى وأيضًا لضبط مواد التموين المهربة من القرية، أي كان هدفها الأساسي تحقيق الأمن الخارجي، والثانية لتحقيق الأمن الداخلي بالقرية، وفرقة ثالثة تشرف على عمليات الري وتزويد الأرض بالماء. مطبعة الدولة الناشئة واكتشفت لجنة الثورة أن بها مؤسسة وطنية خطيرة «مطبعة» يملكها محمد أفندي عجينة، فاستخدموها لطبع قرارات لجنة الثور وتعليماتها وأحدث أخبارها وتوزيعها على الأهالي، ومن يومها ظلت تطبع المنشورات السرية للأقليات على مر العصور وتدافع عنهم دائمًا، حتى نشرت الثورة أصداءها إلى القرى المجاورة، مثل ميت غمر وميت القرشي. وانتشرت في القاهرة أنباء أن فرق كبيرة من الجنود الإستراليين ستذهب إلى زفتى لتخضع القرية الثائرة، وسارع رجال حزب الوفد بالقاهرة إلى مناشدة يوسف الجندي، بالرسل والرسائل، العودة إلى القاهرة على وجه السرعة، وكان عوض الجندي، شقيق يوسف، موجودًا بالقاهرة وعلم بالأنباء، فحاول العودة إلى قرية زفتى لينقذ أخاه، ولما كانت المواصلات مقطوعة والتنقل بين القطر ممنوعًا إلَّا لمن تمنحه السلطات الإنجليزية «جواز سفر» ركب عوض «عربة كارو» إلى قليوب، ثم مركبًا نيليًّا إلى بنها ثم عربة حنطور إلى زفتى. الاستعداد للمواجهة وصل عوض الجندي إلى زفتى ليجد الفلاحين يحفرون حول دولتهم الخنادق ونقل الذخائر والبنادق استعدادًا للمواجهة، وذهب إلى قاعة الثورة بالدور الثاني بمقهى اليوناني العجوز ليجد القاعة تعج بدخان السجائر، وأخاه يوسف ازداد نحولًا واستطالت لحيته، ولا يكف عن إصدار القرارات والتعليمات ومباشرة أحوال الدولة. في ذلك الوقت، أذعنت السلطات الإنجليزية للثورة المصرية؛ فأطلقت سراح سعد زغلول ومن معه، وسمحت لهم بالسفر إلى أوروبا للمطالبة باستقلال مصر، لكن استقلال زفتى ظل قائمًا ولجنة الثورة ظلت تعمل. الحصار في اليوم التالي، استيقظ الأهالي على فوهات مدافع الإستراليين مصوبة نحو بيوت القرية، واحتلوا «محلج رينهارت» و«مدرسة كشك» الواقعين على أطراف القرية، وظلت زفتى تحت الحصار، فخرج إسماعيل حمد إلى الفرقة الإسترالية وقال لهم: «إن الثورة في مصر كلها تهدأ، ومظاهرات الابتاج قد حلت في مصر كلها محل إطلاق النار، وأي طلقة الآن سوف تؤدي إلى اشتباك، والموقف في زفتى هادئ تمامًا، فإذا ظل الجنود معسكرين خارج زفتى وتركوا حركة التبرعات للوفد قائمة فهذا كفيل بألَّا يقع من الفلاحين شيء». ولما عرفت زفتى أن الفرقة إسترالية وليست إنجليزية، أعدت لجنة الثورة منشورات باللغة الإنجليزية تقول فيها: «إنكم مثلنا، ونحن نثور على الإنجليز لا عليكم، والإنجليز الذين يستخدمونكم في استبعادنا يجب أن يكونوا خصومكم أيضًا»، ولما قرأ الإستراليون المنشورات قرروا ألَّا يقتحموا القرية وأن يظلوا معسكرين بجوارها. ولما سكنت الثورة وأصبحت القرية تحت رحمة المدافع، نشط الجواسيس والخونة الذي يسعون بشتى السبل إلى التنصل مما حدث خشية مغبة اقتحام القرية، فحاول هؤلاء الخونة إرسال الخطابات إلى الإنجليز بالقاهرة ليوقعوا بقادة الثورة في زفتى، ويخبرونهم بأسماء الزعماء والنشطاء والثوار، وكل من حمل معولًا أو ألقى خطابًا أو طبع بيانًا وأو ألهب الغضب وأثار السخط في صدر فلاح، وكان إسماعيل حمد يتوقع ما سوف يحدث، فكل ينفرد بكل الخطابات المرسلة إلى القاهرة ويقرأها، وعرف منها أسماء الخونة والجواسيس، وتخلص من كل رسالة تحمل وشاية. الإنجليز يجلدون عملاءهم ولما علم الإنجليز بأن الفرقة الإسترالية لا تزال معسكرة خارج زفتى ولم تقتحمها، أرسلت إليها بتعليمات جديدة من بينها تسليم 20 رجلا لجلدهم، حيث كانت محاكمة الثوار بكل المحافظات والمراكز والقرى والنجوع قد بدأت، وطلبت الفرقة الإسترالية تسليم ال20 رجلًا لجلدهم عقابًا على العصيان، وانعقدت لجنة الثورة لتواجه المأزق، إما أن تسلمهم أو أن تقاوم فتهلك تحت ضربات المدافع، وفي النهاية أخذت اللجنة باقتراح لإسماعيل حمد بتسليم الرقم المطلوب من الخونة والجواسيس الذين اكتشف أمرهم من خلال خطابات الوشاية التي كان يضبطها قبل أن تصل للإنجليز، وبالفعل سلموهم، وجلد الإنجليز عملاءهم!! سقوط الإمبراطورية وفرار يوسف الجندي وتلقت الفرقة الإسترالية أوامر أخرى من الإنجليز بتسليم يوسف الجندي، لكن الشاب الثائر تسلل تحت جنح الليل إلى قرية «دماص» المجاورة، ولم يستطع الإنجليز ضبطه، فقبضوا على أخيه عوض الجندي رهينة، لكنهم أطلقوا سراحه بعدما تأكدوا من أنه لا يعرف حقًّا مكان أخيه، وبعد خمسة عشر يومًا، ظهر يوسف الجندي خاطبًا وثائرًا مرة أخرى في «جروبي»، مواصلًا الكفاح والنضال. آثار الدولة التي كانت قهوة مستوكلي التي اتخذت لجنة الثورة طابقها الأعلى مقرًّا لها، اندثرت مع الزمن وقامت مكانها بعض المحلات التجارية، وظل كشك الموسيقى قائمًا بعدها، حتى الحكومة أرادت في مرة من المرات هدمة لغرض من أغراض التنظيم، فاعترض أهل القرية وتمسكوا بوجوده كدليل قائم وأثر خالد لثورتهم المجيدة ودولتهم الصغيرة. وتظل «زفتى» قصة بطولة ترددها الأجيال المتعاقبة ويضيفون إليها ما يضيفون حتى تناولها الممثل الكوميدي على الكسار في مسرحية باسم «إمبراطورية زقتى»، ذلك الاسم الذي يحمل ضحكة ابن البلد وفكاهته اللطيفة واعتزازه بقريته.