في فناء "مدرسة الحقوق" بالجيزة، يتجمع الطلبة بسرعة، وقد دق الجرس مؤذنًا ببدء المحاضرات، ولكن المحاضرات بقيت خالية، وظلوا يتجمعون في الفناء، وأحاديثهم ترتفع حرارتها وتكاد تلتهب، فقد اعتقل سعد زغلول وبعض أصحابه، والنبأ لم تنشره الصحف، فالرقابة مفروضة، لكن بعض الطلبة رأوه بأعينهم، عصر أمس يركب سيارة إنجليزية أمام بيت الأمة، والجنود الإنجليز من حوله قد رشقوا الحراب في أطراف البنادق، والناس طول الليل يتناقلون النبأ، والمدينة كلها باتت مؤرقة من الجزع. واندلعت الثورة في الأقاليم كلها اندلاعًا لم يكن يحلم به أحد، وخرج الفلاحون من الحقول واقتلعوا خطوط السكك الحديدية، اقتلعوها أولا بين طنطا وتلا، ثم انتشرت العدوى، وانقطع خط الصعيد كله، وأحرقت محطات السكك الحديدية، وأصبح السفر متعذرا إلا بالمراكب في النيل والترع، وأنذر الإنجليز بإحراق أقرب قرية من كل نقطة يقطع فيها الخط، فلم تنقطع المقاومة، وبدأت العاصفة، ترفض بيانات الإدانة، ترفض هذا المنطق ولا تقف عنده، في اليوم التالى يهجم الأعراب على مراكز البوليس في الفيوم وتدور معارك عنيفة، يقول البلاغ الرسمي إنه سقط فيها 400 من القتلى والجرحى، وفى مدن الصعيد ينكمش الإنجليز، ويتحصنون في بيت أو مدرسة، ويحاصرهم الأهالي ويرسلون في طلب المدد. وفى أسيوط تقع أعنف الحوادث.. هجم الثوار على مراكز البوليس واستولوا على السلاح، وتكونت لجان من المحامين تحافظ على الأمن وتباشر مسئوليات الحكم، وانكمش الإنجليز من مدنيين وعسكريين، والأهالي يشنون عليهم الهجمات المسلحة يوما بعد يوم، وأرسل الإنجليز طائرتين قذفتا أسيوط بالقنابل فلم يتراجع الثوار، وأرسلوا قطارًا مسلحًا خاصًا بالجنود، وعند قرية ديرمواس هجم عليه الفلاحون وأوقفوه، ودارت معركة رهيبة سقط فيها القوات والضباط الإنجليز بعشرات القتلى. وتاريخ هذه الثورة لم يكتب بعد، لم يحاول أحد المؤرخين أن ينقب وراء سر هؤلاء الفلاحين الذين حاربوا في "دير مواس" وحاولوا الاستيلاء على إحدى السفن المسلحة في "ديروط"، الكتب تقول إن هذا حدث عفوا.. ارتجالا بحتا.. وهذا مستحيل، لابد أنه كان هناك من ينظمون ويدبرون ويقتحمون المخاطر. إمبراطورية "زفتى" " زفتى" و"ميت غمر" قريتان متقابلتان.. يفصلهما النيل، ويربط بينهما كوبرى عتيق، وفى كل منهما مكتب محاماة لشقيقين شابين: يوسف الجندى في ميت غمر، وعوض الجندى في زفتى، كلاهما من شباب سعد، وكلاهما له سابقة حماسة وحوسب عليها.. ففى سنة 1913 دخل عوض الجندى قاعة الجمعية التشريعية وصفق لسعد، وتضارب مع عضو من مؤيدى الحكومة لأنه كان يقاطع سعد بكثرة، وقبضوا عليه ووجهوا له تهمة تعليق منشورات على أسوار البرلمان، ويوسف الأصغر فصلوه فى سنة 1914 من كلية الحقوق لأنه حرض الطلبة على الإضراب؛ احتجاجا على إعلان الحماية الإنجليزية عقب ابتداء الحرب. ومنذ بدأت حركة الوفد والاثنان يترددان بين القاهرة والريف، ولمع يوسف بالذات في جلسات ثائرة في محال "جروبى" ومجادلات حديقة بيت الأمة، وفى خطب عنيفة على منبر الأزهر الذي كان قاعدة الثورة، وعرفه سعد، والكبار من أعضاء الوفد عرفوه ثائرا لا يهدأ، ليس في وجهه الأسمر إلا شيء واحد "العناد" ولا يخرج من كيانه النحيل إلا أفكار متطرفة. وانفجرت الثورة ويوسف الجندى في قريته زفتى، واتجهت إليه أنظار القرويين، ينتظرون منه أن يصنع شيئًا، ولكن ها هنا في جوف الريف لا يوجد إنجليز يقاتلهم الفلاحون، والسكك الحديدية قد قطعها الفلاحون من القرى المجاورة، ومع ذلك فلابد من عمل شيء خطير ينطوى على معنى الثورة. بدأ الثائر الصغير يعمل، يعلن عن تشكيل لجنة للثورة من بعض الأعيان، والأفندية والمتعلمين والتجار الصغار منهم عوض الكفراوى والشيخ مصطفى عمايم وإبراهيم خير الدين واكون بردا ومحمد السيد ومحمود حسن، واتخذت لجنة الثورة مقرا لها قاعة واسعة في الدور الثانى من مقهى يمكله يونانى عجوز اسمه "مستوكلى". اجتمعت لجنة الثورة وقررت أن تبدأ بوضع يدها على السلطة الفعلية بالاستيلاء على مركز البوليس، وزحف يوسف الجندى إلى المركز على رأس تظاهرة ضخمة ضمت كل الرجال، وجيوش الصبية الصغار، القليلون منهم حملوا بنادقهم القديمة وتسلح الآخرون بالعصى وفروع الأشجار والفؤوس، وشاءت الظروف أن تجنب الدولة الجديدة إراقة الدماء، إذ كان مأمور المركز رجلا وطنيا اسمه "إسماعيل حمد" ومعه معاون بوليس اسمه "أحمد جمعة" وخرج المأمور إلى التظاهرة وسلم يوسف المركز والسلاح وقيادة الجنود والخفراء، ثم عرض خدماته عليه كمستشار للدولة الجديدة يشير عليها بوصفه خبيرا بأحوال الإدارة فيها. اتجهت التظاهرة بعد ذلك إلى محطة السكة الحديدية والتلغراف فسيطرت على التلغرافات فورًا، واستولت على عربات السكة الحديد التي كانت واقفة مشحونة بالقمح تنتظر إرسالها إلى السلطات الإنجليزية. جمع "يوسف" الأعيان ودعاهم إلى التبرع ليصبح للدولة الجديدة خزانة، وكانت هناك حركة تبرعات أخرى جارية لتمويل الوفد، وكان يجيء إلى زفتى كل أسبوع مهندس من طنطا يتسلم التبرعات المتجمعة اسمه عتمان محرم، وتبرع الأعيان أيضا للدولة الجديدة، وكان قصد يوسف الجندى من ذلك أن يوجد عملا للأيدى الكثيرة التي تعطلت لظروف الثورة، فلا تتحول إلى السرقة أو النهب، فاستخدم الأموال المتجمعة ليوجههم إلى بعض الأعمال المفيدة، وردموا البك والمستنقعات التي تحيط بالقرية، والتي يئس الأهالي من مطالبة الحكومة بردمها منذ عشرات السنين، وردموا الشوراع التي كانت تنشع بالماء إذا كان الفيضان، وأصلحوا الجسور القريبة، بل أقامت الدولة كشكًا خشبيًا على ضفة النيل لتعزف فيه الموسيقى. ثم جندت لجنة الثورة كل التلاميذ المتعلمين الموجودين في القرية وقسمتهم إلى فرق: فرقة تقوم بدوريات مستمرة لحفظ الأمن، وفرقة تراقب الحدود بتمنع تسرب مواد التموين أو دخول الجواسيس، وفرقة تشرف على عمليات الري وتزويد الأرض بالماء، وظهر أن في قلب "زفتى" توجد مطبعة صغيرة يمتلكها محمد أفندى عجينة، اخذت تطبع قرارات لجنة الثورة وتعليماتها وأخبارها وتوزعها على الناس. ولم يكن نفوذ زفتى مقصورا على حدودها، فقد كان بريق مقاومتها يرسل ضوءه إلى القرى المجاورة في صور أخرى، فنجد أن أحد البلاغات الإنجليزية الرسمية يعلق على مذبحة "ميت القرشى" – التي راح ضحيتها مائة قتيل- بقوله إن "ميت غمر لا تزال مع زفتى وميت القرشى مركزا للتمرد والفتن في هذه المنطقة. وطارت الأنباء إلى القاهرة وعبرت البحار إلى لندن ونشرت "التيمس" في صدرها أن قرية زفتى قد أعلنت استقلالها، ورفعت على مبنى المركز علما جديدا. وأعلن في القاهرة أن فرقة كبيرة من الجنود الاسترالين سوف تذهب إلى "زفتى" لتخضع القرية الثائرة، وأدرك رجال الوفد مدى الخطر الذي يتعرض له يوسف، فأرسلوا له الرسل والرسائل لكى يعود إلى القاهرة، وسافر إلى "زفتى" أخوه "عوض الجندى"، ولما كانت المواصلات مقطوعة والتنقل داخل القطر ممنوعا، إلا لمن تمنحه السلطات جواز سفر، فقد ركب "عوض" عربة كارو إلى قليوب، ثم مركبا نيليا إلى بنها، ثم عربة حنطور إلى زفتى. وصل "عوض الجندى" غلى "زفتى" ليجد قاعة الثورة في مقهى "مستوكلى" يسبح في جوها دخان السجاير، وليرع أخاه الأصغر يوسف قد زاد نحولا واستطالت لحيته، والأوامر تصدر عن الغرفة متتابعة، وليرى الفلاحون يحفرون حول دولتهم الخنادق وينقلون إليها البنادق القليلة، والذخيرة العتيقة التي لم تستخدم منذ زمن بعيد يستعدون للقاء الإنجليز الذين – بدورهم- كانوا قد أذعنوا لثورة مصر، فأعلنوا إطلاق سراح سعد واصحابه، وسمحوا لهم بالسفر إلى أوربا للمطالبة بالاستقلال، ولكن لجنة الثورة ظلت في "زفتى" قائمة، وأشرق الصبح على مدافع الاستراليين منصوبة، وفوهاتها مسددة إلى بيوت القرية، وقد احتلوا فيها محلج "رينهارت" ومدرسة "كشك " الواقعين عند أطراف القرية، ومرة أخرى خرج "إسماعيل حمد" إلى خطوط الاستراليين، وقال لهم إن الثورة في مصر كلها لن تهدأ، ومظاهر الابتهاج قد حلت في القاهرة محل إطلاق النار، وأى طلقة الآن سوف تؤدى إلى اشتباك، والموقف في زفتى هادئ تماما، فإذا ظل الجنود معسكرين خارج وفتى وتركوا حركة التبرعات للوفد ماضية، فهذا كفيل بألا يقع من الفلاحين شيء. أما لجنة الثورة فكانت قد عرفت أن الفرقة الاسترالية آتية، فأعدت منشورات بالإنجليزية تقول لهم "إنكم مثلنا، ونحن نثور على الإنجليز لا عليكم، والإنجليز الذين يستخدمونكم في استعبادنا يجب أن يكونوا خصومكم أيضا"، وأرسلت المنشورات إلى الاستراليين، وقررت الفرقة ألا تدخل القرية، وأن تبقى معسكرة بجوارها. بعد أن سكنت الثورة في القاهرة، وأصبحت القرية تحت رحمة المدافع الإنجليزية، استيقظ الخونة، الذين خافوا مغبة دخول الإنجليز فأرادوا أن يتنصلوا من الآن، والذين يريدون الكيد لمن تصدوا لقيادة الحركة، أخذ هؤلاء وهؤلاء يرسلون خطابات إلى السلطات في القاهرة يبلغون عن أسماء الزعماء، وكل من حمل معولا أو ألقى خطابا أو ألهب السخط في صدر فلاح، وكان إسماعيل حمد بخبرته الإدارية يعرف ما سيحدث، فكان ينفرد بالخطابات البريدية كل ليلة في حجرة مغلقة، يفضها واحدا واحدا، ويتخلص من كل رسالة تنطوى على وشاية أو كيد. وعلم الإنجليز أن الفرقة الاسترالية عند حدود "زفتى" ولم تدخلها، وكانت المحاكمات قد بدأت تدور في شتى أنحاء القطر لعقاب الثائرين، فأرسلوا إليها تعليمات جديدة، وطلب الاستراليون تسليم 20 رجلا من أهالي زفتى لجلدهم عقابا على العصيان، وانعقدت اللجنة لتواجه المأزق – أن تسلم بعد فوز الثورة عشرين رجلا من أبنائها أو أن ترفض وتقاوم، فتهلك القرية كلها تحت مدافع الإنجليز - وبعد بحث طويل أخذت اللجنة باقتراح من إسماعيل حمد وسلمت القرية عشرين رجلا اختارتهم من الذين كانوا يرسلون خطابات الوشاية والخيانة إلى الإنجليز.. وجلد الإنجليز عملاءهم..! وتلقت الفرقة من القاهرة أوامر أخرى تطكلب هذه المرة تسليم يوسف الجندى، وقال أعضاء اللجنة ليوسف: اذهب إلى مكان لا تخبرنا به..! وتحت جنح الليل تسلل الثائر إلى قرية "دماص" المجاورة، وقبض الإنجليز على بعض الأعضاء، واحتجزوا عوض الجندى رهينة حتى يقول لهم أين يوسف، فلم يطلقوا سراحه إلا بعد أن تأكدوا حقًا أنه لا يعرف مكان أخيه، وانسحب الاستراليون عائدين. أما يوسف الجندى فقد ظهر بعد خمسة عشر يومًا من فراره في القاهرة، يخطب في "جروبى" الذي كان من منتديات الثورة ويحرض على استمرار النضال، وأما قهوة "مستوكلى" فقد اندثرت مع الزمن، وقامت مكانها محال تجارية، وأما كشك الموسيقى فإنه لا يزال هناك قائما في مكانه القديم، وقد حدث مرة واحدة أن فكرة الحكومة في هدمه غرضًا من أغراض التنظيم، فاحتج أهالي زفتى وطلبوا الاحتفاظ بهذا الأثر الخالد من آثار ثورتهم. ومضت الأيام والناس يتناقلون قصة زفتى فغيما يتناقلون من قصص الثورة، ويضيفون إليها، حتى تلقف الممثل الكوميدى الراحل "على الكسار" القصة فنسج حولها مسرحية ناجحة، وأعطاها الاسم الذي اقترن بالقصة بعد ذلك.. اسم فيه ضحكة ابن البلد واعتزازه "إمبراطورية زفتى". المصادر: "أيام لها تاريخ" للكاتب أحمد بهاء الدين – ومصادر متفرقة.