حلمنا أمريكا، وكابوسنا أمريكا.. حياتنا أمريكا، وموتنا أمريكا.. نعم أمريكا صارت كل شيء.. هي أمريكا التي طالعتنا في أفلام الكاوبوي وعانقتنا بوجبات الهامبورجر والكوكاكولا قبل عناقها العاصف بطائراتها وأسلحتها الفتاكة، هي أمريكا قبل وبعد الحادي عشر من سبتمبر' تهيمن علي الجميع وتضع جدول أعمال العالم كله تحت.. شعار محاربة الإرهاب'، هي أمريكا التي خصصت المليارات لتأسيس منابر إعلامية موجهة نحو الأدمغة العربية مباشرة، وهي قبل كل ذلك أمريكا التي رفعت في وجوهنا شعار الحرية، الإخاء، المساواة، والذي تألق منذ القرن الثامن عشر، وتجسد في فكر و سلوك رؤساءها الأوائل: بنيامين فرانكلين وتوماس جيفرسون، الذي صاغ وثيقة الإستقلال، قبل أن تنتصر البرجماتية الأمريكية فيما بعد وتهز الصورة الرومانسية عن أرض الحريات. أمريكا هي الطاعون، والطاعون أمريكا.. كما قالها محمود درويش في قصيدته "مديح الظل العالي" ، التي قال فيها أيضاً: " نحتمي بستارة الشباك، تهتز البناية. تقفز الأبواب. أمريكا وراء الباب أمريكا".. هي أمريكا إذن، تقف وراء كل الأبواب، تسد كل الآفاق إلا من اسمها وحضورها الوحشي، وجبروت وغطرسة وهيمنة أمريكية يبدو أنها صارت قدر العالم كله وربما مصيره.. الوحش الأمريكي عبر المحيط ليفرض سطوته المخيفة علي كل مكان، والسطوة هنا ليست بالسلاح فقط ولكن بالثقافة الأمريكية الجامحة التي تسللت إلينا في البداية برومانسية ثم بعنف. القرن العشرين كان قرناً أمريكياً علي حد تعبير والتر ليبمان ' كاتب ومحلل سياسي أمريكي' حيث إجتاح تيار الأمركة العالم كله بلا هوادة وبلا فرصة حتي ولو لإلتقاط الأنفاس، وجاء القرن الواحد والعشرين أيضاَ أمريكياً.. خصوصاً وأن المعطيات صارت أقوي والسماوات والفضاءات صارت مفتوحة علي مصراعيها، حيث تقود أمريكا ثورة الفضائيات والكومبيوتر والإنترنت، والقصف الإعلامي المكثف الذي استهدف تطبيع العقول لتقبل مفاهيم الكونية والعولمة، وهي المفاهيم التي تحدث عنها من قبل عالم الإتصالات الكندي مارشال ماكلوهان وصاغها في عبارته الشهيرة "العالم أصبح قرية كونية صغيرة" ؟.. الكاتب والصحفي الكبيرمحمد حسنين هيكل يقول "أن الإمبراطورية الأمريكية شبه يقين في المستقبل حتي خط الأفق المرئي وبعده أيضاً"، وهذه المقولة هي قراءة هيكل لزمننا الأمريكي، تلك القراءة التي تحتاج أبجدية مختلفة، خاصة وأن أمريكا الآن كما يقول أيضاً هيكل: ' لم تعد فقط تلك القارة المليئة بالفرص، أو المعبَّأة بالقوة، أو المصممة علي مشروع يرث الإمبراطوريات القديمة وإنما لأن الإمبراطورية الأمريكية أصبحت ظاهرة غير مسبوقة في قصة الإنسانية، فهي حاضرة في كل قارة من قارات الدنيا ضاغطة علي كل إقليم محشورة في كل بلد مندسَّة في كل بيت وتلك أحوال تدعو بالتأكيد إلي القلق لأن العالم لم يعرف من قبل دولة "متداخلة"، إلي هذا الحد في حياة ومستقبل غيرها من الدول. وقد عرف العالم من قبل دولا "متدخِّلة" لكن التداخل" الأمريكي في حياة البشرية مع "الألفية الثالثة الميلادية" تجربة طارئة تستوجب "القلق" وتستدعي التنبه في محاولة للفهم هي الآن "ضرورية" وعاجلة!'. هذا التداخل الذي يتحدث عنه هيكل، يعبر عن نجاح الولاياتالمتحدةالأمريكية في الترويج لصورتها وكأنها جنة الله علي الأرض التي يتمناها الجميع ويصبون إليها، وهي الصورة التي رسمتها هوليوود علي مدار تاريخها الحافل، حيث كل شيء سهل وكل الرجال في وسامة النجوم من كلارك جيبل إلي ليوناردو دي كابريو، وكل النساء في جمال النجمات من ريتا هيوارث إلي أنجلينا جولي، وأما الأطفال فهم في مرح وخفة ميكي رون إلي ماكولي كالكين أو حتي الجميلة شيرلي تمبل.. هل هناك أبهي من تلك الصورة؟! تلك هي الصورة البريئة للمجتمع الأمريكي، كما رسمتها السينما الأمريكية 'خصوصاً في البدايات'، حيث كانت الأفلام والموسيقي رائعة وكان الحلم الأمريكي بالحرية جميلاً وله معني، ولكن خطوط الصورة لم تقف عند هذا الحد، فالبراءة توحشت وظهر الفارق بين الجمال والقبح.. الفارق بين سحر فريد استر وعنف سيلفستر ستالوني، فالألوان في الصورة تداخلت لتكشف عن ملامح القوة والعنف عنواناً للمرحلة الحاضرة والمستقبلية أيضاً، وربما حتي تتحقق المقولة الروزفلتية الشهيرة:" أمركة العالم هي مصير وقدر أمتنا". نعم.. أمركة العالم، ذلك الشبح الذي صار لايهدد فقط، بل ويتحقق وجوده علي أرض الواقع بمنتهي الهدوء والثبات، في ظل التغيرات الثقافية الحاصلة، والتي لم تعد خلالها الأمركة، كما وصفها البعض، مجرد شكل خبيث من أشكال "الإمبريالية الثقافية"، حيث هيمنة وسائل الإعلام الأمريكية علي السوق، بل صارت الحلم والفكرة في وسائل الإعلام الأخري التي تروج للنموذج الأمريكي الجماهيري.. ذلك النموذج الفردي المتحرر من قيود الأعراف الإجتماعية والتقاليد الثقافية، أو تقلده بحرفية عالية جداً. الفضائيات العربية هي أيضاً وجدت نفسها في قلب أو في فخ الحلم الأمريكي.. تروج له بشكل أو بآخر، سواء بالتقليد و التبعية، أو باستيراد المواد والبرامج الإعلامية من أمريكا، فحدثت ثورة الفضائيات العربية في برامج التوك شو وبرامج تليفزيون الواقع، وزادت القنوات العربية في الموضة والأزياء التي تعتمد في معظمها علي مواد وبرامج و"ديفليهات" غربية ' الغرب قطعة واحدة .. أمريكا بالطبع في مقدمته'، فحتي لو قدمت هذه القنوات عرض أزياء للمحجبات فستكون مرة عابرة، لأنها مضطرة إلي ملء مساحات فارغة لديها ولن تسعفها سوي ماجلبته واستوردته من المواد الأجنبية، وهنا يكون التأثير جزء كبير منه تراكمياً، وكذلك بالنسبة للمسلسلات والأفلام الأمريكية التي خصصت لها قنوات عدة، فضمن مجموعة قنوات "إم.بي.سي" مثلاً، توجد قناة "أكشن" المتخصصة في أفلام ومسلسلات التشويق والإثارة الأجنبية، الأمريكية تحديداً، هذا غير قنواتها مثل " 2 " المتخصصة في الأفلام الهوليوودية، و" 3 " المتخصصة في أفلام الكارتون 'المدبلجة للعربية في كثير من الأحيان'، و" 4 " التي تحتوي علي مزيج من المسلسلات 'دراما وأكشن ورعب وكوميديا...' والبرامج الغربية، إضافة الي البرامج الحوارية الشهيرة مثل "أوبرا" و"د.فيل" وهي من نوعية البرامج التي تغوص في قلب المجتمع الأمريكي وتكشف عن مشاكله وعن أسلوب الحياة الأمريكية بكل تعقيداتها، وتعرض يومياً كذلك نشرات الأخبار المسائية الأمريكية من كبريات الشبكات مثل "أي.بي.سي" و"سي.بي.إس"، وهناك أيضاً ضمن مجموعة قنوات "دبي" قناة باسم "دبي وان" التي تعرض المسلسلات والأفلام الأمريكية، وهو مايمكن أن نطلق عليه طفرة في هذه القنوات التي تلهث وراء المادة التليفزيونية الأمريكية وتنجح في الحصول عليها محققة إنقلاب كبير في الخارطة التليفزيونية العربية، خاصة وأنه كان في السابق أحدث هذه الأعمال تعرض حصريا لأصحاب الاشتراكات في إحدي شبكات التلفزيون المدفوعة 'مثل "شوتايم" و"أوربت"'، لكن كثيراً من البرامج باتت تجد طريقها الي القنوات المفتوحة وغير المشفرة في فترات مقاربة لوقت عرضها الأصلي في الولاياتالمتحدة. الأمركة بشكلها المباشر تحققت من خلال القنوات الإخبارية العربية، حيث إعتنت هذه القنوات بمتابعة أحداث الساعة وحركة المال والإقتصاد وحوادث الجريمة والأخبار الفنية والرياضية وإستعرضتها علي الطريقة الأمريكية المثيرة، بل أن أمريكا راحت تتصدر كل نشرات الأخبار : "العراق وأمريكا.. إيران وأمريكا.. السودان وأمريكا.. أوروبا وأمريكا.. اليابان وشرق آسيا وأمريكا.. أمريكا وأمريكا": هي طرف في كل قضية في العالم.. طرف حتي في قضايانا الإجتماعية، موضوع مطروح وملح طول الوقت، وأسلوب طرح هذه القضايا في النشرات الإخبارية العربية يحاكي ويقلد طريقة عرض الأخبار في النشرات الأمريكية، حتي في شكل المذيع والمذيعة اللذان يقدمان النشرة بدءاً من طريقة الحوار فيما بينهما والإبتسام والتعليقات علي الأحداث حتي تحياتهما بالأيدي، وهو أسلوب أمريكي مائة في المائة يعكس طابعاً تمثيلياً أكثر ويتناقض مع الشكل التقليدي والشائع قديماً لمذيعين نشرة الأخبار في التليفزيونات العربية. في البدء كانت الجزيرة التي رسخت لمفهوم جديد في صناعة الأخبار المرئية في العالم العربي، وبعد أن أسست شبكة السي. إن. إن لصناعة الأخبار علي مدار الساعة وعلا نجمها عند إندلاع حرب الخليج الثانية 'ومن منا لا يتذكر بيتر ارنيت وهو يصور اشتعال ليل بغداد بالصواريخ والمضادات؟'، سنحت الفرصة لإستنساخ الفكرة عربيا فولدت الجزيرة، أول قناة اخبارية عربية تتميز بالجرأة في تجاوز ثقافة "التابو" والمحرمات التي سيطرت علي المخيلة العربية كثيراً، وجاء إكتساح الأطباق التليفزيونية لكل البيوت العربية ليفتح للإنسان العربي آفاقا جديدة ويري صوراً لم تكن متاحة له من قبل، وتتسلل إليه الأمركة بيسر وهو في عقر داره، وتلت تجربة "الجزيرة" تجارب أخري، وإن ظلت التغطية الإخبارية للجزيرة تلقي الإهتمام الأكبر، فبرامجها الحوارية السياسية الحية، لها تأثير قوي وتجتذب بانتظام جمهوراً لا يناظره من حيث الحجم سوي جمهور برامج الثقافة الشعبية مثل عرض تليفزيون الحقيقة "سوبر ستار"، الذي هو نسخة عربية عن "أميريكان أيدول" ، ثم جاءت "العربية" ببرامجها الحوارية الأكثر ضبطاً والتي تبقي شعبية مع ذلك، أما البرامج المسجلة مسبقا، مثل التي تعرضها قناة "الحرة" ذات التمويل الأمريكي، فتجتذب إهتماما أقل. وهكذا فإن تقليد الإعلام الأمريكي والذي عكس نفسه في البرامج الإخبارية وبرامج التوك شو والتحليلات السياسية طرح شكلاً جديداً في الإعلام العربي لم يكن متاحاً في السابق، و دخل التليفزيون الفضائي العربي منطقة مختلفة، وأنتج ذلك ربما خطاباً لم يكن سائداً، حيث إستطاعت الشاشات العربية الصغيرة إختزال العالم المحتدم والمتحرك والهائج ، بل إنها كانت البديل المستمرعن الواقع.. فالمجتمع السياسي بكافة أفراده وحتي بجمهوره وقاعدته إحتل التلفزيون. ففي الوقت الذي تشكو فيه المسلسلات الدرامية من هزال وضعف فإن الدراما السياسية فرضت نفسها بقوة، إنها نبوءة إنتصار الشكل علي المضمون التي أشار إليها مارشال ماكلوهان في دراسته الهامة "الوسائل هي الرسائل"، بمعني أن جهاز التليفزيون في حد ذاته هو الرسالة التي يستقبلها الجمهور ويتعود عليها ويخضع لها، وليس المضمون الذي يقدمه التليفزيون، فإذا تعود الناس علي الجهاز وألفوه فإنهم بعد ذلك سيكونون مؤهلين للإقتناع بأي مضمون يشاهدونه فيه، أو علي الأقل سيكونون مستعدين للتفاعل مع هذا المضمون بالتأييد أو الرفض، لكنه في كل الأحوال سيكون ركناً مهماً في حياتهم وبرنامجهم اليومي. وهو ما يسميه أيضاً ريجيس دوبريه ب"الفيديولوجيا" وهو المصطلح الذي قال دوبريه أنه وريث "الأيديولوجيا"، بما يعنيه ذلك من إنتصار للاستهلاك الفوري الذي يروج له التليفزيون 'الفيديو' علي حساب الأفكار والقناعات 'الأيديولوجيات'، بل أنه أكد في كتابه "الميديولوجيا: علم الإعلام العام" أن هذه "الفيديولوجيا" هي السبب الأساسي في سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي وإفساح الطريق لهيمنة أمريكا علي العالم. هذا التاثير المفزع يرصده بنيامين باربر في دراسته المهمة "ثقافة الماك وورلد في مواجهة الديمقراطية"، مشيراً الي أن "الفيديولوجيا" هي أداة الثقافة العالمية الأمريكية، للإنقضاض علي ثقافات العالم التقليدية من خلال أسلوب يشبه طريقة "الفيروس، فهي تلتهم ثقافات الآخرين من داخلها، فتري مثلا أن الإيقاعات الأمريكية اللاتينية تتداخل مع "البوب" في الأحياء المكسيكية الفقيرة في لوس أنجلوس، وميكي ماوس يتكلم الفرنسية في ديزني لاند باريس، وماكدونالدز يرتدي الملابس العربية والدجاج يذبح علي الطريقة الاسلامية، المهم ان يؤدي كل شئ في نهاية المطاف إلي أمريكا والرأسمالية، وتتحول أيقونات الثقافة الأمريكية إلي أحصنة طروادة التي تتسلل ويتم تسريبها إلي داخل بنية الثقافات العالمية حتي تعجز عن مقاومتها، وتستسلم بطواعية للأمر الواقع الجديد. أما بالنسبة للسينما كمادة تعرضها هذه القنوات والفضائيات فمن الصعب التعامل معها علي أنها مجرد مادة تليفزيونية يمكن التعاطي معها علي هذا الأساس، وبالتالي لايمكن وضعها في خانة ضمن الفضائيات أو القنوات التليفزيونية، لأن هذه الفضائيات والقنوات بالضبط هي أشبه بجهاز الفيديو ' زمان'، مجرد وسيط لنقل الأفلام الأمريكية أو غيرها إلي البيت ولكن بصورة أفضل وعلي مدار الأربع وعشرين ساعة، حيث استطاعت ثورة الفضائيات أن تستولي سريعا علي ميراث الفيديو، وتعيد صياغة تطلعات المنتج والفنان والمتلقي وفق أسلوب جديد، ومن هنا فلا يمكن التعامل مع الأفلام الأمريكية التي تقدمها هذه القنوات تروج إجمالاً لأسلوب حياة أمريكية معينة سواء حياة مثالية أو عنيفة، فأمريكا عرفناها أيضاً جيداً من خلال ستانلي كوبريك، وأوليفر ستون، فرانسيس فورد كوبولا، دي بالما، لوميت، كابرا،جاموش، مارتن سكورسيزي، سيدني بولاك، ألن، وغيرهم من المخرجين والفنانين الذين هزوا نوم الواقع الامريكي ليوقظوا فيه 'الحلم'، هؤلاء الذين إنضموا تحت مظلة واحدة وأثبتوا أن المثقف الأمريكي تنبه مع إنتصار الروح البرجماتية النفعية منذ بدايات القرن العشرين إلي حقيقة أن أميركا بدأت تخسر 'حلمها'، كما أدركوا أن الحلم الأمريكي ليس إرثاً شرعياً للبرجماتية الأمريكية، وإنما هو إرث أولئك الذين هاجروا من بلدانهم الأوربية خوفاً من الإضطهاد والتعذيب، وجاؤوا الي الأرض الجديدة من أجل بناء عالم جديد يليق بالبشر والقيم الإنسانية.. السينما الأمريكية ومنذ بدايتها، منذ جريفت وشابلن، كابرا، وبيكنباه، توقفت عند منعطفات التاريخ الأمريكي، وتناولته بالنقد والتحليل والقراءة الجريئة، فمن خلال السينما الامريكية تعرفنا أيضاً علي سيئاتهم ، ومن خلال أفلامهم عرفنا شعور أمريكا بالذنب في حرب فيتنام، كما اكتشفنا جراح الحلم الأمريكي.. واذا ما كانت السينما الأمريكية قد ساهمت في 'أمركة' العالم بطرق مباشرة او غير مباشرة، فإن هذه السينما نفسها كانت هي السباقة في نقد السياسة الأمريكية. [email protected]