لم تكن ثورة 23 يوليو مجرد تعبير عن غضب الجيش من خيانات قادته في حرب 1948، أو مجرد حماس وطني للاستقلال التقليدي من الاستعمار البريطاني .. أو مجرد انقلاب جنرالات إصلاحي ضد فساد الدولة والجيش، ولكنها كانت حلقة »ثورية «من حلقات الكفاح الوطني المصري منذ 1919 التي ركب موجتها الثورية كبار الملاك المتحالفين مع القصر والانجليز. بل أن ثورة 23 يوليو لم تكن بعيدة عن الحراك الثوري الذي تجلي في 1935 و1946 وبلغت ذروته في الكفاح المسلح ضد الانجليز في القناة منذ عام 1950 وهو الحراك الثوري الذي حاول القصر والانجليز وحلفاؤهم إطفاء جذوته بحريق القاهرة.. هذا الحراك الثوري بلور مشروع النضال الوطني المصري الذي تجاوز طلب »الاستقلال« التقليدي إلي بناء الدولة الوطنية القائمة علي الحرية والعدالة الاجتماعية لتأسيسي مجتمع حديث تتحقق فيه إنسانية الإنسان. لذا كان أول قرار من قرارات ثورة يوليو هو قانون الإصلاح الزراعي الذي أعاد الأرض للفلاح المصري وغير الخريطة الطبقية تغييرًا جذريًا ومثل انحيازًا ثوريًا لجماهير الشعب المصري وتنامي الفعل الثوري بتأميم قناة السويس ثم بناء القاعدة الصناعية وتأسيس مشروع التنمية المستقلة الذي تزامن معه صدور قوانين يوليو 1961 التي أعطت العمال حقوقهم المسلوبة والذي تزامن مع مجانية التعليم والتوسع في بناء المدارس والجامعات لتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، ليصنع الحراك الثوري مشروعًا وطنيًا تحرريًا يسعي لبناء الدولة الوطنية الحديث التي أصبح لها دورها العربي والإفريقي والأسيوي والذي حول »القاهرة«إلي منارة ثورية في العالم الثالث، ومنارة ثقافية في الوطن العربي وقاعدة ثورية متقدمة ضد الامبريالية في العالم.. وهو الأمر الذي دفع الامبريالية لضرب مصر في 1967 كي توقف المد الثوري المتنامي ضد مصالحها. وبإنكباب مصر علي إعادة بناء جيشها وحرب الاستنزاف، وبرحيل عبدالناصر، وإقصاء السادات التيار الثوري والتحالف مع الرجعية العربية والرجعية الدينية كان المشهد جاهزًا بعد انتصار 1973 لأن تدخل أمريكا إلي المنطقة من جديد عبر مباحثات كيسنجر والسادات التي كان من نتائجها الانفتاح الاقتصادي وتقليص دور مصر في افريقيا وآسيا وفتح السوق للمنتجات العالمية وإيقاف مشروع التنمية المصري المستقل وهو ما استكمله ببراعة نظام مبارك الذي استكمل بيع القطاع العام وأطلق يد الرأسمالية التابعة ليتم تكبيل مصر وتقزيمها وإدخالها إلي الحظيرة الأمريكية كتابع للمخطط الأمريكي في المنطقة.. وتترهل الدولة الوطنية لتعجز عن إدارة البلاد فتلجأ إلي حماية نفسها بأبشع أنواع »الفاشية البوليسية «التي لم تصمد أمام الزحف الجماهيري في ثورة 25 يناير التي رفعت شعار الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية مرة أخري مع إصرار علي الاستحقاق الديمقراطي وانتصرت الثورة، وأزاحت مبارك ورجاله، لكن فصيلاً أكثر فاشية تحالف مع الأمريكان لحرف مسار الثورة .. تمكن بالفعل من الاستيلاء علي الدولة »المترهلة« ولأنه استأثر بالدولة ولم يتقدم خطوة واحدة في تحقيق العدالة الاجتماعية الناجزة ازداد الفقراء فقرًا، وازداد هو استبدادًا وفاشية » باسم الدين « ولأن ثورة 25 يناير كسرت حاجز الخوف، ولأن الثوار تعلموا الكثير والكثير.. تصاعد الغضب الشعبي وخرجت الجماهير مرة أخري لتزيح »الفاشية المتشحة بالدين « فانحاز لها جيشها الوطني الذي أدرك حجم »المؤامرة« علي أمن واستقلال الوطني.. واكتملت ملامح الموجة الثانية من الثورة في 30 يونيو لتطالب الجماهير بدولة »وطنية ديمقراطية مستقلة« خرجت الجماهير رافعة » المشروع الوطني لثورة يوليو« مرة أخري وهي أكثر اصرارًا علي التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.. فالتفت حول جيشها الوطني ضد »ضغوط الامبريالية«، ومحاولات فلول الفاشية لإعادة عقارب الساعة إلي الوراء وهو الأمر الذي لن يحدث.. فمصر المتحررة الثائرة ستمضي قدمًا لتحقيق مجتمع الحرية والعدالة والكرامة الوطنية وستعود لممارسة دورها الرائد في المنطقة ولو كره الكارهون من المتحذلقين والمتأمركين.