تعج منطقة الشرق الأوسط بالكثير من القضايا والملفات الشائكة، فمن القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، إلى ملف الإرهاب ومخاطر الميليشيات والتنظيمات الإرهابية بالمنطقة والعالم، وإلى طول أمد الأزمة السورية واليمنية والليبية، ثم إلى ملف الهجرة واللاجئين والاتجار بالبشر، وتداعيات التدخلات الإيرانية والتركية الخطيرة وغير المشروعة في شئون الدول العربية، إلى المشروع النووي الإيراني، ووصولا إلى ما يقوم به النظام التركي المتعامل مع المرتزقة والإرهابيين بالتدخل غير المشروع في شئون كل من العراق وسوريا وليبيا وبما يخالف القيم والقوانين والأعراف الدولية وسيادة الدول، ومؤخرًا بتهديد وابتزاز النظام التركي لدول شرق المتوسط ومحاولاته المستمرة بالتنقيب عن الغاز والنفط خارج حدوده المائية والتعدي السافر على ثروات الدول وبما يخالف الاتفاقات الدولية التي تحدد الحقوق المائية . ومع القوة الاقتصادية الكبيرة التي تتميز بها ألمانيا داخل دول الاتحاد الأوربي والعالم، إلا أنها وبرغم تاريخها ومكانتها العريقة غير قوية وفاعلة في المجال السياسي ولعب دور فعال في القضايا الدولية وبخاصة فيما ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، ومن ذلك أن ألمانيا لم تقم بدور واضح وحاسم في تاريخ القضية الفلسطينية، فقد ظل الموقف الألماني خجولا من عدالة تلك القضية، ولهذا فقد عملت على ترضية الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وبدون الانحياز لعدالة القضية الفلسطينية والاعتراف بدولة فلسطين بسبب تداعيات الإرث النازي تجاه اليهود، وبالتالي حرصت ألمانيا على عدم إغضاب إسرائيل وبعدم دفع الاتحاد الأوروبي لاتخاذ مواقف حازمة منها، وبالتالي لا يمكن للنظرية الواقعية أن تفسر لنا موقف ألمانيا السياسي الواضح تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فبرغم المساعدات الاقتصادية التي تقدمها ألمانياللفلسطينيين، وبرغم الموقف الألماني الداعم لفكرة حل الدولتين، إلا انه وبسبب رماديته لا يتخذ أي إجراءات لا تقبلها إسرائيل، أو بانتقاده إسرائيل على جرائمها المستمرة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وهذا يفسر لنا أيضاً حدود هذا الدور الألماني في الاتحاد الأوروبي؛ لأن ألمانيا وبسبب علاقتها الخاصة مع إسرائيل ترفض أن تفعِّل فرنسا مساعيها للعب دور فاعل أكبر للاتحاد الأوروبي في حسم هذا الصراع بإقامة الدولتين وبالتالي عرقلة دور الاتحاد في حل تلك القضية، كما أن موقف ألمانيا السياسي لا يزال غامضا ومبهما في الأزمة السورية والعراقية، أما في الأزمة الليبية وبرغم دور ألمانيا في مؤتمر برلين الذي عقد خلال يناير الماضي من أجل إحلال السلام في ليبيا فلا يوجد لها موقف سياسي واضح ومؤثر لحل تلك الأزمة لصالح الدولة الليبية والليبيين، فمرة نجدها مؤيدة لحكومة السراج المدعومة من تركيا وقطر والمرتزقة والإرهابيين داخل الغرب الليبي، ومرة أخرى مؤيدة للشرق الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر وبرلمان طبرق برئاسة عقيلة صالح؛ ولهذا تحاول ألمانيا أن تظهر نفسها أمام المجتمع الدولي على مسافة واحدة من طرفَي النزاع، وبتمسكها بضرورة وقف إطلاق النار، وباستبعاد الحل العسكري للصراع، والدفع نحو إيجاد حل سياسي عبر وضع كافة الأطراف المتصارعة وداعميهم على طاولة المفاوضات ، ومن خلال تلك الرؤى فان ألمانيا تلعب دورا مزدوجا في الأزمة الليبية . أما فيما يتعلق بملف الهجرة واللاجئين الذين يهددون أوروبا فإننا نجد ألمانيا معارضة في بعض الأحيان لاستقبالهم، وفي أحيانا أخرى مؤيدة ومساندة لحقوقهم واستقبالهم وبما يخالف الموقف الرسمي المعلن من دول الاتحاد الأوروبي، كما أننا لا نجد ألمانيا قوية وفاعلة مثل الدور الفرنسي الواضح والنشط للحفاظ على أمن البحر المتوسط وملف الإرهاب والهجرة وقضايا الشرق الأوسط، وبرغم أن ألمانيا تترأس الاتحاد الأوروبي الآنو فإنها لم تستغل تلك الفرصة لتبرز دورها السياسي في القدرة علي إدارة شئون الاتحاد وبإحياء دوره المنوط به ليكون فاعلا ومؤثرا بجانب الدول الكبرى لحل القضايا الدولية، والدليل على ذلك موقف خارجيتها الخجول أمام ما يفعله النظام التركي المتورط مع الإرهاب والمهدد لدول المنطقة، والمزعزع لاستقرار أمن دول شرق المتوسط من خلال الاعتداءات المستمرة على الحقوق المائية لكل من قبرص واليونان ومصر وبتهديد تركيا للأمن والسلم الدوليين، وبالتالي عدم اكتراث ألمانيا بتداعيات ومغبة ذلك على دول أوروبا والناتو ودول المنطقة، إلا أن ألمانيا ولحفظ ماء الوجه توسطت مؤخرا عن طريق وزير خارجيتها كريستوفر برجر؛ لاحتواء الأزمة بين اليونان وتركيا على غاز المتوسط عبر الحوار كطريق سلمي لحل الخلافات بين البلدين وسط موقف أوروبي متشدد تجاه الأنشطة التركية المزعزعة لأمن المنطقة. لكنّ حملات الهجوم التي تشنّها الصحافة الألمانية يومياً على انتهاك أردوغان للقوانين الدولية، وبالكارثة التي ستحلّ على ألمانيا في حال سماحها لأردوغان بالاستمرار على نهجه الاستعماري يمكن أن تشكل توجهاً ألمانياً جديدا لنبذ العدوان التركي والتصدي له، إلّا أنّ الموقف الألماني المتردد وغير الثابت على مواقفه المعلنة في أغلب الأحيان لايزال أسيرا لتهديد تركيا بورقة اللاجئين وللعلاقات التاريخية والمصالح المشتركة بين البلدين، ومقابل ذلك فإن ألمانيا تمتلك ما يؤهلها للقيام بدور سياسي كبير يسهم في حل الكثير من تلك القضايا عن أي قوة دولية أخرى، إلا أن جميع العوامل السلبية السابقة مازالت تشكل عائقا أمام قيام ألمانيا بهذا الدور السياسي الكبير وبالتالي محدودية تأثيرها الحالي في حل القضايا الدولية، فهل تتحول السياسة الخارجية الألمانية من الرمادية إلى القوة وأخذ زمام المبادرة لحل الكثير من القضايا الدولية وبانحيازها الصريح للحقوق المشروعة للدول؟ ويبدو أنّ هذا الأمر على وشك التغيير.