لم يخرج متمردو بزمي علي مليكهم العثماني حين وقفوا في باحات المسجد تفوح من أفواههم المفغورة بالضحكات البلهاء رائحة الخمور، لكنهم أعلنوا بوقفتهم تلك خروجهم علي رب أردوغان وعلي قيم المجتمع التركي وعلي مشاعر ملايين المسلمين الذين تعاطفوا مع دبيب أقدامهم في ميادين الثورة التركية لأول وهلة. لا حاجة لرذاذ الفلفل الحار أو لقنابل الغاز الماطرة أيها الأردوغان الملك. يكفيك أن تضع شاشة عرض كبيرة في صدر كل ميدان لتعرض ما فعله متطرفو اليسار بمساجد الثائرين ضد قهرك المقدس لتنصرف الحشود من حولهم خجلي. يمكنك الآن أن تمارس قمعك المقدس ضد الخارجين علي سلطانك القديم لترد الخارجين عن حظائر الرب إلي مستقر طاعتك. يحق للبسطاء الآن أن يضعوا راحات أكفهم فوق صدورهم المضطربة وأن يتنهدوا بعمق ويعودوا إلي بيوتهم مطمئنين إلي عدالتكم المقدسة، وأن يمارسوا طقوس الدفاع عنك عند كل معترك. فقد أساء الفاسقون بحمقهم إلي قضايا الثورة العادلة ووضعوا رؤوس نصالهم في بطن التمرد ليبقروه. لماذا تُبتلي عواصمنا الربيعية جدا بالمتطرفين علي الجانبين، وكأن أمتنا 'الوسطية جدا' لا تجد من يعبر عن آلامها العميقة دون شطط ودون ولاءات ودون قهر؟ لماذا نجد أنفسنا دائما داخل قوسين لا سبيل إلا الخروج عليهما إلا بدعم من أبالسة التاريخ الذين لا يبسطون أياديهم إلا لحاجة ولا يقدمون دعما إلا بشروط؟ وكيف يجد الواقفون بين يسار الفكر المتطرف ويمينه المتعصب موطئا لأفكارهم المحايدة دون أن يُتهموا في ولاءاتهم وعقيدتهم. عودا علي بدء أقول، لم يضف التهافت في مواقف العلمانيين المتطرفين رصيدا يزدهي به المتطرفون علي الجانب الآخر من خاصرة الوجع، فكلهم في الجهالة سواء، وكلنا في الحمق شرق. أقول أن ما فعله سفهاء اليسار بالمقدسات الإسلامية واعتداءاتهم غير المبررة علي حرمة المساجد إفلاس فكري وردة حضارية، لكنه أبدا لا يبرر القمع الذي يتعرض له أصحاب الرأي في الأناضول وذوي الحاجة في الميادين. وأعتقد أن بلادنا المنقسمة علي نفسها لن تستطيع الخروج من حمأة التردي ووهدة السقوط إلا بنبذ العنصرية البغيضة والتعصب المقيت للفكر والرأي والمعتقد.وعلي عقلاء الأمة أن يجدّوا في البحث عن المشترك بين عناصر الأمة وتدعيمه، وتهميش مواطن الخلاف دون التغاضي عنها أو إهمالها. أقول أن بيننا كشعوب من القيم المشتركة ما يسمح لنا بالتعايش وتقاسم اللقمة والأمل. وأننا قادرون بإذن الله علي تجاوز محنة 'التقسيم' ومخطط الفوضي بالتخلي عن شططنا الفكري والجلوس علي مائدة حوار دون استعلاء أو استقواء أو تعنت. الثورة علي بيوت الله شطط علماني غير مسبوق وغير مقبول وغير مبرر، والتعنت والقهر باسم الله خلل في جينات الفهم وقصور عن إدراك غايات الأديان. وللثائرين مطلق الحق والحرية في رفع عقائرهم في الميادين وضرب كعوب أحذيتهم فوق أرصفته الباردة، لكنه ليس من حق أحد أن يبصق فوق ثوابتنا أو يتعالي علي قيمنا ومعتقداتنا باسم الحرية، وليس من حق أحد أن يظلم أحدا بحجة الدفاع عن حرمات الله، فحرمة الدم أعظم الحرمات في الإسلام، وقد حرم الله علي نفسه الظلم وجعله علينا - نحن المسلمين - محرما. ليست الأناضول في خطر أيها المدافعون عن السياسات الأردوغانية، وليست الأزمة في تركيا أزمة خمور أيها العلمانيون جدا. أزمتنا في الأناضول ومصر والعراق وسوريا واليمن وليبيا وتونس والسودان أزمة إقصاء وتهميش وقهر. والتمرد في بلادنا ليس تمردا ضد دين أو فكر أو عقيدة، لكنه تمرد ضد الهيمنة الاستقواء والاستعلاء. أفيقوا أيها الواقفون علي حافة المذبحة قبل أن يحملكم تيار العصبية إلي حروب غبراء ليس الدين فيها طرفا ولا المساجد ثكنات طائفية. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات