ما يجري في المنطقة ليس حروبا بالمعنى التقليدي وإن كانت أشكاله العسكرية متعارفا عليها أو هي خطط من خزائن الخبرات العسكرية، وإنما هي حرب اقتلاع دول وأنظمة من جذورها، وتكمن العبرة فيما يحصل لليبيا وقبلها العراق وسورية واليمن.... لم يسقط القذافي فقط، بل تبدل وجه ليبيا في كل منعرجاته... والحال فإن أهم مشاكلنا في المنطقة العربية أننا بارعون في تحليل الأحداث وتحديد المخاطر أو توصيفها، ولكننا لا نتعامل مع تلك الأخطار والتحديات بما تستلزمه من رسم استراتيجيات جماعية وتركيب مواقف بمواجهتها تحول دون تحقيق أهدافها ووصولها إلى غاياتها، ما يجعلنا ندفع ثمناً غالياً جراء ذلك، ولعل ما جرى ويجري راهناً على مستوى الساحة العربية هو الدليل العملي على ذلك. ولا شك أن ما يجري على الساحة الإقليمية من فوضى نتيجة إضعاف الجيوش الوطنية والسلطة المركزية ترك فراغاً هائلاً استطاعت التنظيمات الإرهابية والقوى المتطرفة إشغاله أو ملأه، ما أفسح المجال لبروز كيانات ميكروبية هشة هي في جوهرها وحقيقتها إمارات حرب بدل الدول، وتنظيمات إرهابية بدل الأنظمة السياسية، وهنا تتحوّل المنطقة من دول وشعوب إلى كيانات هزيلة وملل ونحل تعود لعصر ما قبل تشكل الدولة الوطنية المدنية، دولة القانون وجوهرها المواطنة لا الرعية والملة، ولعل ما نلحظه راهناً يشي بذلك تماماً، لا بل أن ثمة فلسفات وتحليلات بدأت تمهد لها وتسعى لشرعنتها وإكسائها الطابع القانوني والعملي. إن ما يسعى إليه الإرهابيون ومشغلوهم من قوى إقليمية وخارجية ليس فقط إسقاط الأنظمة السياسية، وإنما إسقاط البناء الاجتماعي والثقافي والقانوني الذي تأسست عليه الجماعات السياسية والعقد الاجتماعي، الذي نشأت عليه وتحوّلت من خلاله إلى دول وأوطان وجغرافيا سياسية لها هويتها وحدودها وسيادتها. والوظيفة اليوم التي بدت واضحة لا لبس فيها والمسندة إلى التشكيلات والميليشيات والمسميات والمنتجات والألوان التي ما أنزل الله بها من سلطان هي أن تكون جيوش الاستعمار بالوكالة لتتولى استهداف الدول العربية المراد قطع رأسها بدءا من ضرب مراكز قوتها والمتمثلة في المؤسسة العسكرية والبنية الأمنية، ثم البنية الأساسية والمشاريع الحيوية التي تقوم عليها الدولة اقتصاديًّا واجتماعيًّا، مع تمزيق النسيج المجتمعي واستهداف المكونات والرموز الوطنية والدينية المؤثرة والتي تشكل صمامًا من صمامات الأمان للدولة ووحدتها وتماسكها. إن ما تواجهه الجيوش العربية في سورية ولبنان ومصر والعراق والجزائر وتونس واليمن وليبيا، من استهدافات من قبل مرتزقة وعصابات الدواعش وأخواتها، لا تتعلق بظروف محلية طارئة وإنما تنفيذاً لمخططات كبرى لا يستفيد منها إلا أمريكا وإسرائيل وتركيا والقوى المرتبطة بهما. وعلى ضوء ما يجري في بعض الدول العربية، أصبح من الواضح أنه لا جدال في أن استنزاف وإشغال الجيوش العربية المركزية واستهلاكها وإضعافها إلى أكبر حد ممكن هي مسألة مخطط لها من الدوائر الأميركية والغربية والإسرائيلية والتركية، وتشكل في الوقت نفسه هدفاً مرحلياً لهذه الدوائر. وهذا الهدف المرحلي يخدم بطبيعة الحال هدفاً إستراتيجياً للدوائر المذكورة يتمثل في تحويل بلدان هذه الجيوش أو دولها إلى دول ''فاشلة''، أو شبه فاشلة من الناحية العملية حتى من دون الاضطرار لتتويجها بهذا اللقب بفضل الفوضى العارمة التي ''ترفل'' بها، وحالات عدم الاستقرار التي تعيشها على المستوى الرسمي والشعبي وانعكاسات ذلك على الاقتصاد والتنمية فيها. فالاستراتيجية الأميركية المخصصة لهذا العقد الثاني قي الألفية الثالثة هي استهلاك جيوش الدول المتحالفة مع واشنطن وإعادة تنظيمها بعد تقسيم الدول المجاورة لإسرائيل إلى دويلات صغيرة بعد تفتيت جيوشها المركزية. وهذا يعني أن الاستهداف الممنهج للجيوش في الدول العربية لا علاقة له بالشعارات البراقة لما يسمى الديمقراطية أو حتى استجابة لظروف أمنية وسياسية طارئة، وإنما هو لإكمال المؤامرة الكبرى على الدول العربية وعلى دول العالم الثالث وإضعاف جهازها المناعي المتمثل بالجيش وبالقوى الأمنية بغية تفكيك تلك الدول لإعادة تركيبها من جديد وبما يخدم المصالح الأمريكية الإسرائيلية... فلم يعد بعد اليوم شيئاً خافياً بعد تدمير العراق، وحرق الدولة الليبية، وتقسيم السودان، واستنزاف الجيش في مصر، ونهب مياه العرب، في دجلة والفرات والنيل، والخطر الأكبر الذي يهدد الدول العربية اليوم، تصريحات من هنا وهناك، ''أن هناك ميليشيات مدربة ومسلحة ستحل محل الجيوش العربية مستقبلاً...؟''. من هنا تأتي أهمية وعي ذلك وإدراكه على المستوى الوطني والقومي وتحويل ذلك إلى سلوك سياسي تتبناه الأنظمة الحاكمة في أكثر من قطر عربي، نرى بعضها اليوم منخرطاً تماماً في اللعبة الدولية التي هي في جوهرها مؤامرة تاريخية واستراتيجية عدوانية لم تتغيّر في مضامينها أو تنحرف عن غاياتها وأهدافها. وحري بنا نحن الشعوب العربية أن نحافظ على الجيوش العربية الوطنية، حتى لا تطمس معالم هويتنا العربية، وإذا كان الأمريكان والغرب وتركيا... مصرون على حل الجيوش العربية بين عشية وضحاها، لإنهاء قوة العرب في العالم، فإن ولادة هذه الجيوش ليست كولادة الجيوش الأمريكية التي ما تأسست إلا من خلال عبور اللصوص والقتلة من خلال تلك الأدغال والمستنقعات المائية ليطردوا الهنود الحمر من وطنهم الأصلي، فكوّنوا جيش لقيط من هؤلاء العابرون والمحتلون الجدد، ومثلهم كمثلْ جيش الكيان الصهيوني الذي تأسس من كل سفلة وسفاحي دماء الشعوب في العالم، فالجيوش العربية هي امتداد لشريعة حمورابي وجيش محمد وفتوحات بني أمية، وفيالق الرشيد المتآلفة مجداً وكبرياءً. فإلى بواسل الجيوش العربية العقائدية البطلة تتوجه اليوم فعاليات المجتمع السياسي الوطني والعروبي بالعالم الحر، بالتحية والتقدير وهي تعلن كما نشهد في وسائل الإعلام والتواصل أننا مقاتلون سياسيون وعسكريون...، ولا ضير في العسكرتاريا التي تضفي الطابع العسكري على أغلب مظاهر الحياة العامة في أغلب بلدان العالم المعاصر حين تهزم السياسات الغاشمة التي تنزع إليها قوى الهيمنة والاحتكار والرجعية والإرهاب، لأن العسكرتاريا أدرى بقيمة الحياة، وبمخاطر ويلات الحروب، وبالكوارث الناجمة عن مشهد التغيير السياسي العربي الراهن الذي يخدم مجاناً الأحلام العسكرية وغيرها لإسرائيل.