تكشف التجربة السياسية اليمنية عبر مراحل مختلفة عن قصور واضح في إدراك فكرة الدولة فيما راج في أعقاب ثورة فبراير2011 شعار إعادة بناء الدولة كمصطلح ثوري رائج في صفوف النخبة السياسية الصاعدة التي أدرجته كعنوان ضمن مقررات الحوار الوطني خلال المرحلة الانتقالية الأولي, لكنه لم يترجم في الواقع العلمي حيث اخترلت فكرة إعادة بناء الدولة في مشهد إعادة البناء السياسي وفقا لآليات مرحلية فرضتها الطبقة السياسية المتصدرة للمشهد التي تصدرت مشهد ما بعد الثورة, والتي سرعان ما فشلت; لكونها لم تعالج الاختلالات البنيوية والهيكلية في الدولة, لاحقا, ومع مشهد إحتياج الحركة الحوثية وإسقاط السلطة الدستورية في21 سبتمبر2014 بدأ مسلسل الإنهيار الذي تعزز مع اندلاع الحرب الأهلية في مشاهد دالة علي هشاشة الدولة ككيان. وفي ظل هذا الوضع الذي وصل إليه اليمن يبدو ان هناك الكثير من المعوقات الخاصة بإعادة بناء دولة اليمن مرتبطة بالمعوقات التأسيسية بروافدها; كالثقافة السياسية المتجذرة, والتجارب السياسية, وعلاقة الجغرافيا وحركة التاريخ, والمعوقات الطارئة الخاصة بتطور النموذج نفسه. فواقعيا يشكل اليمن نموذجا استثنائيا في التعاطي مع فكرة الدولة بالمعني المعاصر, فالمعوقات التأسيسية واكبت عملية تأسيس الدولة تاريخيا في طبعتها الحديثة, وظلت ملازمة لها, وهي تكشف في ذاتها عن عوامل الانهيار التي أدت إلي سقوط الدولة في اليمن ومنها: عدم تجذر مفهوم الدولة الحديثة: فلم تشهد الدولة في اليمن التطور الطبيعي للدولة المعاصرة, فظلت في الحالة الأولية للدولة بمكوناتها السياسية الحاكمة, وهي القبلية التي تعد وحدة البناء السياسي في اليمن, وتجمع العديد من القبائل لتأخذ شكل الدولة القبلية, ولا تشكل المؤسسات الهيكلية للدولة أكثر من مجرد أنساق لتوزيع الحصص القبلية السياسية, فخلال فترة الحكم الجمهوري تكرس في ثقافة الشماليين أن الحاكم شمالي, يأتي من القبائل المركزية في الشمال من صنعاء ومحيطها, ويبقي في حماية القبلية التي تؤمن له موقعه السياسي. التجاذبات المحلية والإقليمية: ظل اليمن رهن التجاذبات الإقليمية والصراعات المحلية, فالحرب التي شهدتها اليمن في ستينيات القرن الماضي كانت تعبيرا عن صراع إقليمي, يعاد إنتاجه اليوم علي نفس القاعدة مع تغيير في أدوار اللاعبين التي تواكب الظرف الاقليمي, وشكلت التداعيات المباشرة لهذا الصراع تأجيلا لفكرة مشروع الدولة العصرية الحديثة, فليست هناك مؤشرات واضحة يعتد بها في مرحلة الانتقال من الدولة الإمامية إلي الدولة الجمهورية, وصولا إلي مرحلة ما بعد الثورة علي مستوي البني التحتية, فلا زالت الدولة القبلية هي جوهر بنية الدولة بشكلها في اليمن, وفي حالات ضعفها تظهر الانقسامات السياسية, وتظهر دويلات في أحشائها مثل دويلة المليشيات كما هو نموذج الحركة الحوثية وحتي تحول بعض القطاعات العسكرية الموالية للرئيس صالح من جيشه السابق. ضعف المؤسسات السياسية: جاء الوهن الذي أصاب السلطة السياسية في اليمن علي خلفية طول فترة الحكم, وانعدام القدرة لأربعة عقود من الزمن علي تجديد الدماء السياسية في المجال العام, والافتقار إلي آليات التطور الهيكلي في مؤسسات الدولة السياسية, خاصة الحزبية منها. فتشكلت المؤسسات مثل البرلمان جاء هو الأخر تعبيرا عن مجلس قبائل في صورة مطورة نسبيا عن الأنماط التقليدية لمجالس القبائل, وكذلك الحزب الحاكم كان عبارة عن منتدي قبليا لترجمة المحاصصة القبلية. كذلك التجرية الحزبية خلال العقود الثلاثة والنصف الأخيرة, وهي فترة كافية لظهور كيانات ناضجة سياسياإلا أنها ظلت انعكاسا لنفس الروافد التقليدية في الدولة, فقد تحولت القبلية في الشمال إلي مجرد حزب حاكم, إلي جوار أشكال كلاسيكية للتجربة الحزبية العربية بكل علاتها, من اليمن إلي اليسار, وهي لا تعكس قاعدة جماهيرية بقدر ما تعكس إطارا نخبويا. المحاصصة القبلية: وهي واحدة من أخطر العوامل التأسيسية, حيث إن مؤسسات الدولة ولدت ضعيفة بالأساس, ولم يطرأ عليها التطور الذي يسمح لها بمعالجة الضعف والخلل الكامن فيها تدريجيا, فمؤسسات الدولة المركزية الأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية خضعت لعملية المحاصصة القبلية, وبالتالي فرضت القبيلة وصايتها علي الأطر السياسية والمؤسسية في البلاد, التشريعية والتنفيذية والقضائية, وأصبغت عليها تقاليدها وأعرافها, دون إتاحة سياقات الحداثة التي عرفتها الدولة. الافقتار لجيش حديث: بالمعني الشامل, فلا يمكن التعامل مع الجيش في اليمن كمؤسسة, إذ لم يشهد تحديث حقيقي تاريخيا طوال عهد الجمهورية, والتطور الوحيد الذي طرأ عليه تجلي في فرع الحرس الجمهوري إلي حد ما ولأغراض سياسية تتعلق بدور نجل الرئيس وتطلعاته السياسية في وراثة الحكم, إلي جانب أن تركيبة الجيش لم تخضع قواعد منظمة ومنضبطة, بل إن القواعد المقررة من السهولة تجاوزها لصالح تعضيد المصالح مع القبيلة. وفي مرحلة ما بعد الثورة أضيف بعدا جديدا من الخلل البنيوي وهو الدمج علي أساس المرجعية السياسية والايدلوجية حيث أدمج حزب الإصلاح الواجهة السياسية للإخوان المسلمين عشرات الآلاف من عناصره في الجيش, وفي مرحلة لاحقة طالبت الحركة الحوثية بالدمج لنحو15 ألفا من عناصرها علي أساس المرجعية الدينية, وتأكيدا لحضورها كقوة سياسية علي الساحة. وعلي المنوال ذاته يجري توزيع المناصب في القطاعات الشرطية والأجهزة السيادية من الأمن والمخابرات, حيث تبدأ المحاصصة هرميا بتوزيع عائلي للمناصب الرفيعة, ثم تتدرج علي حسب التوزيع القبلي والمناطقي, ونادرا ما تظهر الكفاءات في هذا السياق, وكان لهذه التركيبة أثرها الواضح في ضعف منظومة الجيش في مواجهة التحديات الحقيقية لمنع انزلاق الدولة, فتحول إلي مجرد أداة لتصفية الحسابات السياسية بين القبلية وأعدائها وهو ما ظهر في صور الحروب الاهلية الثلاثة التي شهدتها البلاد خلال العقود الثلاثة الاخيرة. الإرث التاريخي للصراعات: حينما تكون الحرب موروثا ثقافيا تاريخيا, وعوائدها مصدرا للمصالح وللارتزاق, يكون الطابع الثأري أحد إفرازات هذا المورث, ولهذا الطابع أيضا تجليات عديدة في الساحة اليمنية علي مدار التاريخ الحديث, بل علي العكس كشفت سيرورة الحرب الأخيرة عن طبعة حديثة تؤكد علي تجذره في الثقافة اليمنية, فالحركة الحوثية خرجت من معقلها في صعدة لتنتقم من عدوها اللدود حركة الإخوان المسلمين الذي كانت تري فيه عدوها الحقيقي في ميدان الحروب الست في الفترة ما بين2004 و.2006 ولذا شنت عملية انتقام منظمة علي معاقله في دماج وعمران وحجة والحصبة أطلقت عليها الحرب السابعة وأعلنت في أعقابها ما أطلقت عليه ثورة التصحيح بإسقاط صنعاء في21 سبتمبر2014, ثم واصلت الثأر بعد السيطرة علي صنعاء لتفرض لنفسها علي المشهد اليمني بشكل عام. الاختلالات الجيو-سياسية: التي فرضتها سياسات السلطة المركزية, فبدلا من استثمار التنوع اليمني أبرز مساحات التباين في المجتمع وكأنها دوائر مختلفة جغرافيا وديمغرافيا وسياسيا, مما أنتج حالة من عدم الانسجام الأهلي في المشهد اليمني, فهناك نمط خاص في الشمال, وشمال الشمال والجنوب, وهذه الاختلالات الجغرافية شكلت تحديا إزاء عملية تماسك جغرافية الدولة. فالوحدة بين الشمال والجنوب لم تنجح عمليا, بل ظلت مجرد وحدة شكلية; حيث زادت عملية الاحتقان الجنوبي تجاه الحكم الذي رأت فيه امتدادا لحكم القبلية, بينما عرف الجنوب جانبا من شكل الدولة العصرية, فيما عززت الحرب الاهلية الحالية دعوات الانفصال. وإلي جانب هذه الاسباب التأسيسية السبعة هناك عوامل استمرار للفشل والتي تشير الي التكريس لاستمرار سيناريو الانهيار في اليمن ومنها:- استمرار الحرب الاهلية وغياب فرص اقرار السلام: فلم تنجح المباردات والوساطات العديدة في وقف الحرب الاهلية الجارية في اليمن للعام الثالث علي التوالي, بل علي العكس هناك غياب في أفق اقرار عملية سلام بين أطراف الاحتراب الاهلي. غياب مشروع الوطني: فشل المشروع الوحيد لاعادة بناء الدولة في اليمن بعد ثورة فبراير وهو الحوار الوطني الذي لم تسمح ظروف عدم الاستقرار بأن يتحول إلي إطار انتقالي, فالاليات التنفيذية التي كان يعول عليها في ترجمته واقعيا بترت بسبب الحرب الاهلية. غياب المصالحة الوطنية: فالحرب كرست لحالة العداء المجتمعي, خاصة في المناطق التي شهدت انتهاكات مكثفة كما هو الحال في تعز, بالإضافة إلي الثأر السياسي بين القوي التي يخول إليها إعادة بناء المستقبل السياسي في اليمن. استمرار التجاذبات الاقليمة: وما يصعب من تدايعات هذه التجاذبات أستمرار الصراعات الاقليمية المرتبطة بها كما هو الحال في سوريا علي سبيل المثال. تنامي ظاهرة الإرهاب والتطرف العنيف: فهناك تنامي ملحوظ في المشهد اليمني لتنظيمات القاعدة وداعش وهو سياق طبيعي في ظل البيئة الراهنة التي يغلب عليها طابع الفوضي الامنية وغياب آليات المواجهة.