تحدثت فى مقالى السابق عن فضيلة التواضع ورذيلة الكبر، وأوضحت أن من الرذائل التى منى بها كثير من قيادات الجماعات الإسلامية وأفرادها ومن تبعهم رذيلة الكبر، والتكبر على خلق الله بما يتوهمون أنهم وحدهم على الحق المبين، ومن عداهم فى الضلال وإن كان من العلماء العاملين.! ثم تحدثت عن فضيلة التواضع وأوضحت أنها صفة من أجل الصفات قدرا، وأعلاها وأرقاها شأنا فى الإسلام، واستكمالا لجانب مهم من جوانب الحديث عن هذه القيمة العظيمة، أتناول فى مقالى هذا ضروة أن يكون العالم متواضعا، متخذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة الذى بلغ بتواضعه أن يكون أعظم مخلوق على وجه الأرض. فمن أمارات تواضع العالم أن يقف عند حدود علمه، وألا يتدخل في غير اختصاصه، وأن يقف عند قوله تعالى: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ"، وصفة التواضع تعد من المحامد القويمة التي أكد عليها القرآن الكريم وأكدت عليها السنة النبوية المطهرة، ولأنها قيمة فلا يرسخ للقيم إلا أصحاب القمم، وعلى رأسهم العلماء، ولذلك كانت بداية الأوامر الإلهية في أمر تبليغ الدعوة للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" فأمر التواضع منوط بعلاقة التأثير والتأثر، فلا يخص ذوات العلماء وإنما يخص ما يتركونه من أثر في نفوس المتلقين عنهم، وتبليغهم مراد الله للناس، فإن المتكبر لا يمكن أن تصل دعوة الله - عز وجل - للناس من خلاله، وهذا هارون الرشيد - رحمه الله - يقول لأحد المؤدبين لأولاده : -"ليكن أول إصلاحهم إصلاح لنفسك، فإن أعينهم معقودة بك، إن أحسنت أحسنوا، وإن أسأت أساءوا"، ومن ثم فإن أمر التواضع عند العلماء راجع لتأثيرهم وزرع القيم الحسنة، والأخلاق القويمة في نفوس المتلقين عنهم، وإن الله تعالى في ذكره لصفوة خلقه والمبلغين عنه وصفهم بأجمل الصفات وأكملها، فقال تعالى مناديا سيدنا يحيى - عليه السلام -: "يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا"، وقال سبحانه عن الخضر معلم سيدنا موسى - عليه السلام -: "فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا"، وقال - عز وجل - في حق حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: "وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا"، وكلها توحي بالتواضع وخفض الجناح. فإذا كان التواضع فى حق عامة الناس قيمة عظيمة، وصفة تعد من المحامد القويمة التي أكد عليها القرآن الكريم وأكدت عليها السنة النبوية المطهرة، فإنها فى حق العلماء أمر واجب، وهذا يؤكد ضرورة إعادة صياغة أصحاب القمم وعلى رأس هؤلاء يأتى العلماء المربين والمعلمين، فى المدارس والجامعات. إن التواضع فى التبليغ والعلم والتربية، صفات من مراد الله رب العالمين لهم جميعا، يقول تعالى: "واتقوا الله ويعلمكم الله"، وذلك يقتضى إذا أردنا دولة قوية، أن نعيد منظومة المعلم باعتباره عالما فى تخصصه، ولابد أن يكون العالم عموما، وعالم الدين على وجه الخصوص متواضعا لاستجلاب الناس، لأن الناس لاتأخذ من المتكبر بل تعرض عنه وإذا أردت أن تبلغ عن الله ورسوله، فلابد أن تتواضع. وللإنصا، فإن الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف يبذل جهدا كبيرا فى هذا الإطار، ويعمل على تنشئة جيل من شباب علماء الأوقاف واسع الاطلاع كثير العلم شديد التواضع، فأسأل الله له التوفيق والسداد، وأرجو أن تكون فضيلة التواضع مرعية فى جميع المناهج الدراسية، والتأكيد عليها بشتى الوسائل، وأهم وسيلة على الإطلاق أن يكون العالم فى أى مجال قدوة لطلابه، ومثالا للتواضع. ..........................................