"أنا آخر حبة في مسبحة القراء".. جملة كان يقولها لي الشيخ محمد محمود الطبلاوي عندما كنت أتحدث إليه بين الحين والآخر لأقتنص ولو لحظات قليلة أتبرك فيها بذلك الصوت الملائكي الذي أسر القلوب قبل الآذان.. وهي الجملة التي أطلقها عليه الكاتب الصحفي محمود السعدني باعتباره " مسك الختام " بين لآلئ رموز قراء كتاب الله كالشيخ محمد رفعت والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ البهتيمي والشيخ محمد صديق المنشاوي. والشيخ الطبلاوي كان شخصية معتزة جدا بنفسها.. ولمَ لا وهو الذي حاز مكانة لا ينافسه فيها أحد في قلوب مستمعيه من مختلف دول العالم والتي حصد فيها العديد من التكريمات وربطته صداقات وطيدة بالعديد من رؤسائها.. فقد كان خير سفير لدولة القرآن بمصر والتي نال فيها شهرة كبيرة حتى قبل أن يلتحق بالإذاعة المصرية لدرجه أن الناس كانوا يستخدمون اسمه في الأمثلة للتضخيم كأن يقال :" فلان ولا الطبلاوي ف زمانه " وهو ما أكده لي الشيخ مازحا بالإضافة للعديد من المواقف التي دللت على اعتزاز الشيخ بنفسه وحرصه على مكانة مصر وصورة رجل القرآن، ومنها رفضه تلبية الدعوة لزيارة بابا الفاتيكان عندما كان بروما شريطة أن ينزل له بنفسه ويصطحبه من أمام الأسانسير وهو ما تحقق له بالفعل.. هذا فضلا عما ذكره الشيخ بنفسه عن مدى سعادته عندما كان بالسعودية بصحبة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد عام 79 وقال له الملك خالد :" يا شيخ طبلاوي إن القرآن نزل بالحجاز وجمع بتركيا وقرئ بمصر" وعندما تعجب الشيخ فسر له الملك خالد قصده بأن اللسان المصري هو أفضل من قرأ القرآن على الإطلاق.. وهو ما اعتبره الطبلاوي (رحمة الله عليه) شهادة تكريم له شخصيا. ومن المواقف التي أسعدته أيضا وكان دائم الحديث عنها والذي كان بمثابة تكريم رباني له حتى أنه قال أنه شعر وكأنه شم رائحة الجنة عندما قرأ القرآن في جوف الكعبة بعدما دعاه الملك فهد لحضور غسيل الكعبة وقراءة القرآن بداخلها وهو ما لم يتحقق لأحد غيره من القراء. الغريب أن الشيخ رغم كل هذه التكريمات التي نالها إلا انه لم يكن يخجل أبدا أن يصرح لي ولغيري بأنه كان يجهل علم الموسيقي والمقامات وكيف أنه رفض تعلمها حتى لا يغير في طبيعة وفطرة صوته التي أحبه الناس عليها والتي صنع بها مكانة ومدرسة خاصة في القراءة لدرجة أنه رغم جهله بعلم النغمات والمقامات إلا أنه لقب ب "صاحب النغمة المستحيلة". ولعل من أكثر أحاديثه التي علقت بذهني كلامه عن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد والذي قال عنه: رغم أنه كان يكبره بسنوات بسيطة إلا أنه كان رفيق دربه وشبابه، وأنه كان يسكن بمنطقة بالقرب منه، وكانا يتبادلان الزيارات، كما انهما قرأا سويا في الإذاعة المصرية بالتناوب أسبوعيا لفترة طويلة.. وكيف أن الشيخ عبد الباسط كان معروفا بشياكته وأناقته ودماثة خلقه حتى أنه كان يؤثر الطبلاوي ويقدمه علي نفسه في القراءة. وعندما كان يرفض كان الشيخ عبد الباسط يقرأ ويصدق سريعا حتى يأخذ الطبلاوي فرصته في التلاوة . والشيخ الطبلاوي، رغم أنه سجل المصحف بصوته تجويدا وترتيلا.. إلا أنه كان متحيزا لمدرسة التجويد وهو ما فسره لي عندما سألته عن سر ذلك بقوله : إن التجويد هو الذي يبرز قدرات القارئ من طول في النفس ودقة في الحروف وإتقان لأحكام القراءة ويعطيه الفرصة لإظهار مواهبه من حلاوة للصوت، وقدرة على تطويعه مستشهدا بقوله صلي الله عليه وسلم :" زينوا القرآن بأصواتكم" إلا انه في نفس الوقت كان يرفض التغني في القرآن واصفا ما يقوم به بعض القراء ( الصييتة ) في المآتم من تطويل في النفس ومط لبعض الكلمات أو التنفس في وسط الجمل، وتقطيع بعضها بما يغير المعني تماما، وهو ما يقع في دائره التحريم شرعا . أخيرًا وعلى ذكر تحيز الشيخ للتجويد كان للطبلاوي رأي سبق أن نشرناه في رده علي تخوفي أنا وكثيرين من خلو الساحة من القراء الجدد في مقابل الغزو من القراء السعوديين رغم انتهاجهم الترتيل بما قد يهدد مكانة مصر بين القراء.. وينذر باختفاء التجويد على حساب الترتيل. وكان رد الشيخ بأن اختفاء القراء الجدد راجع لاختفاء الكتاتيب، التي كانت بمثابة معمل تفريخ للأصوات الجديدة إصافة لتباعد فترة انعقاد لجنة الإجازة لفترات طويلة إلى جانب عرقلتها، وتعنتها في شروط الإجازة بما أضاع الفرصة على كثير من الأصوات الجميلة، وحال دون ظهورها.. أما عن ظاهرة انتشار القراء السعوديين فإن ذلك راجع لأنهم يذكرون الناس بروحانيات الحرمين الشريفين.. ( ويكفي أن اللجنة سبق أن رفضت إجازة الختمة المجودة لعدد من مشاهير القراء السعوديين مثل الشيخ الحذيفي لاحتوائها على أخطاء بالجملة إلي أن تم تداركها.. وتكفي شهادة أشقائنا السعوديين وشهادة شاهد من أهلها الملك خالد بأن المصريين هم أفضل من قرأوا القرآن.. فمصر لن تتزحزح عن مكانتها أبدا في قراءة القرآن . ولن أنسي أبدا دعوات الشيخ (رحمة الله عليه) لمصر، وأن يحفظها الله شعبا وقيادة، وحبه أيضا وتعلقه الشديد بدولة الحرمين الشريفين والتي كان حريصا كل الحرص علي أن ينال تكريمها.. وهو الذي كرم الله روحه في شهر القرآن.. رحم الله الشيخ الطبلاوي وجمعنا به على خير في جنات الخلد.